
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب, قبل نشوب الحرب العالمية الأولي كانت أوربا قد انقسمت إلي معسكرين، معسكر الوفاق وكانت الدول الأساسية فيه هي بريطانيا وفرنسا وروسيا ، ومعسكر التحالف (دول الوسط) وكانت الدول الأساسية فيه هي ألمانيا والنمسا ، وقد انضمت إليه الدولة العثمانية، ولما كانت أقطار الشرق العربي في آسيا عند نشوب الحرب لا تزال تابعة للدولة العثمانية، فقد صار من المتوقع أن يكون لهذه الحرب آثارها العميقة علي مصير أقطار الشرق العربي ،وهذا حدث بالفعل .
- أهمية المشرق العربي
- الإتفاق بين بريطانيا والشريف حسين
- مراسلات الحسين / مكماهون
- انحسار الحكم التركي علي الحجاز
- خيانة بريطانيا لعرب المشرق
- -اتفاقية سايكس / بيكو
- -تصريح بالفورر
- انسحاب الترك من المشرق العربي
- -الحملة علي الشام
- -إخراج الترك من العراق
- -انسحاب الترك من اليمن
- -منطقة الخليج
- استمرار بريطانيا في خديعة العرب
أهمية المشرق العربي
ذلك بأنه بفضل سيطرة الدولة العثمانية علي أقطار الشرق العربي في أسيا، كانت تستطيع أن تهدد مصالح بريطانيا في أكثر من منطقة: أولهما منطقة قناة السويس، وثانيهما منطقة الخليج الغنية بأبار النفط، وكلاهما يؤدي إلي أهم مستعمرات بريطانيا في الهند، وكانت آبار النفط تستغلها شركة البترول الأنجلوفارسية، وتمد بريطانيا بإحتياجاتها من البترول الذي ينقل من حقول فارس إلي مصافي عبدان الواقعة علي شط العرب بواسطة خط من الأنابيب ، وبينما كانت عبدان تقع علي الضفة اليمني لشط العرب، فقد كانت الدولة العثمانية تمتلك الفاو علي الضفة اليسري لشط العرب ، وبذلك كانت تستطيع أن تدمر مصافي النفط، وتحول دون تصديره إلي بريطانيا.
وإلي جانب ذلك، فقد كان للدولة العثمانية حقوق علي الساحل العربي للخليج، وكانت لها قوة برية في البدعة في جنوب جزيرة البحرين ، وإلي جانب ذلك فقد كان البحر الأحمر بسواحله الطويلة يمكن أن يوفر للدولة العثمانية وحليفتها المانيا قواعد يمكن استخدامها في الأعمال البحرية ضد بريطانيا ، كما يمكن استخدامها مراكز لبث الدعاة إلي مختلف الأقطار العربية والإسلامية المجاورة، والتي تخضع لحكم الحلفاء (دول الوفاق) .
وبالإضافة إلي ذلك فإن اليمن_ وكان فيه وقتئذ حامية تركية_ كان يمكن أن يكون مصدر تهديد للقاعدة البريطانية في عدن ، كما كان هناك خطر من جانب القوات العثمانية في العراق علي الخليج العربي وفارس ، وبالتالي علي الهند ، كما كان في استطاعة القوات العثمانية المدعومة بضباط من الألمان والمتمركزة في الشام أن تهاجم مصر وقناة السويس . وهذا ما حدث فعلا مرتين .
وكان من أشد الأخطار التي كانت تهدد دول الوفاق من جانب الدولة العثمانية خطر إعلان الجهاد ، ذلك أن الدولة العثمانية استخدمت سلاح الحرب الدينية بالعمل علي إثارة العالم الإسلامي ضد دول الوفاق . خاصة وأن الدولة العثمانية تسيطر علي الأماكن المقدسة الإسلامية في الحجاز ، كما أن ملايين عديدة من المسلمين كانوا تحت حكم كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا ، ولذلك فقد أصدر شيخ الإسلام في الدولة العثمانية بيانا من ثلاثين صفحة موجها لجميع أهل الإسلام، يستشير المسلمين في شتي أنحاء الأرض إلي “بذل الوسع لإنقاذ أي شعب من شعوب المسلمين ، وأن الجهاد صار فرض عين علي كافة المسلمين ضد المستعمرين ” الذين كان يصفهم البيان بالكفر .
وإذ ظهرت هذه الأخطار التي تهدد دول الوفاق عامة وبريطانيا خاصة .
فكيف تستطيع بريطانيا مواجهة هذه الأخطار ؟. لقد سلكت بريطانيا عدة سبل لمواجهة هذه الأخطار :
(١) تدعيم قواتها في مصر التي حولتها بريطانيا _ نتيجة دخول الدولة العثمانية الحرب إلي جانب المانيا _ إلي محمية بريطانية، بدلا من مجرد الإحتلال العسكري البريطاني لمصر ، لمواجهة الخطر العثماني الذي كان يتوقعه البريطانيون علي مصر وقناة السويس ، وفعلا قام العمانيون بحملة عام ١٩١٤ وأخري عام ١٩١٥ . إلا أن هاتين الحملتين ردتا علي اعقابهما قبل عبورهما قناة السويس، ولم يلبث في العام قبل الأخير من نهاية الحرب أن تحولت بريطانيا في مصر من مدافع ضد الغزو العثماني من الشام، إلي غزو الشام العثماني لطرد الترك منه . كما سيتضح فيما بعد .
(٢) وإدراكا من بريطانيا لقيمة الشرق العربي وأهميته الاستراتيجية، والدور الذي يلعبه عرب المشرق في الصراع الدائر ، أرادت بريطانيا الإستفادة من العرب ضد الدولة العثمانية، خصوصا وأن عرب المشرق كانوا قد أبدوا قبل الحرب بعض مظاهر السخط علي الحكم العثماني ونزعته التركية والمركزية. فرات بريطانيا أنه يمكن استخدام هؤلاء العرب من أجل إخراج الدولة العثمانية من الحرب وإحراز النصر عليها.
كما أن ثورة العرب في المشرق ضد العثمانيين سوف ترغم الدولة العثمانية علي الإحتفاظ بجانب كبير من قواتها فيه ، وبذلك لا تشترك في جبهات القتال الرئيسية الأخري ، بالإضافة إلي أن خروج شبه الجزيرة العربية عن طاعة الدولة العثمانية من شأنه أن يقطع الصلة بين القوات العثمانية الرئيسية المتمركزة في الشام والفرق العثمانية في جنوب شبه الجزيرة العربية كاليمن وعسير ، وبذالك لا تستطيع هذه الأخيرة أن تصبح ذات خطر علي المراكز البريطانية في جنوب الجزيرة العربية(عدن) .
وكانت بريطانيا تعلق الآمال علي شبه الجزيرة العربية، رغم ان بلاد الشام كانت المؤهلة أكثر للثورة ضد الدولة العثمانية، حيث الحركة العربية كانت أقوي منها في غيرها من بلدان الشرق العربي ، ولكن لكونها قريبة من مقر الدولة ووجود حشود كبيرة من القوات التركية فيها يمكن تعزيزها بسهولة . إلي جانب صعوبة إخضاع زعماء الحركة العربية في الشام بشكل مطلق لمخططات بريطانيا، وما عرف عن أطماعها في المنطقة .
بالإضافة إلي أنه كان من المعروف ومن الأمور التي سلمت بها بريطانيا ذاتها أن بلاد الشام منطقة نفوذ لحليفتها فرنسا ، فإذا أمكن تحريرها من الترك فإن بريطانيا لن تستفيد منها ، كل هذه الأمور ادت إلي انصراف بريطانيا عن التفكير في الشام كمركز للنشاط العربي المضاد للدولة العثمانية، وتفضيل منطقة الجزيرة العربية عليها .
ولذلك فإن بريطانيا أبرمت عدة معاهدات مع عدد من الزعماء العرب في شبة الجزيرة العربية : منها :
أ_ المعاهدة مع الإدريسي في عسير ، وكان في استطاعة الإدريسي أن يثير الصعوبات في وجه المواصلات التركية بين الحجاز واليمن ، وتهديد الترك من الخلف في حالة هجومهم من اليمن علي عدن ، ولذلك قام المقيم السياسي البريطاني في عدن قام بإبرام معاهدة في إبريل (نيسان) ١٩١٥م / ١٣٣٣ههلتقوية أواصر التحالف بين الطرفين ، وفي هذه المعاهدة تعهد الإدريسي بمهاجمة الترك ، ومحاولة إخراجهم من مراكزهم في اليمن ، والعمل علي مد نفوذه علي حساب العثمانيين .
ب_ وإذا كان الإدريسي قد إنضم إلي بريطانيا علانية ، فقد كان موقف الإمام يحيي في اليمن مختلفا ، وذلك بسبب اختلاف ظهور كل منهما ، فقد كان وضع الإمام يحيي ومركزه الديني يمنعه من الإنضمام للقوي غير الإسلامية ضد العثمانيين المسلمين ، كما أن صلحه مع العثمانيين عام ١٩١١ في دعان كان يقيده ولو نظريا ، ويمنعه من الوقوف ضدهم ، بعكس الإدريسي الذي لم يكن ملتزما بموقف معين نحو الدولة العثمانية، وقد سبق له أن تحالف مع الإيطاليين، وإن كان الإمام يحيي لم يناصب البريطانيين العداء صراحة ، حيث تميز موقفه بين الطرفين بالهدوء، وعدم القيام بعمل إيجابي واضح لمساعدة أي منهما ، وذلك حرصا علي مصالحه الخاصة ، فقد كان يخشي الفرق العثمانية الموجودة فوق أراضية ، وفي الوقت نفسه كان يخشي البريطانيين في محمية عدن التي تقع علي حدوده ، والتي كان الإمام يحيي يري أنها ملك لأجداده .
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب – الكويت
بمجرد دخول الدوله العثمانية الحرب ، سارعت بريطانيا إلي تقوية مركزها في الخليج، فوجه المقيم السياسي البريطاني مذكرة إلي الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت ، يعده فيها بإعتراف بريطانيا بانقطاع صلات الكويت تماما مع الإمبراطورية العثمانية، وفي مقابل ذلك طلبت بريطانيا تعاون أمير الكويت مع الأمير عبد العزيز آل سعود وغيره من الزعماء في تقديم المعونة للقوات البريطانية المتجهة إلي البصرة وجنوب العراق ، أو علي الأقل الحيلولة دون وصول الإمدادات التركية إلي البصرة .
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب – عبد العزيز آل سعود
في شبه الجزيرة العربية كان هناك آل رشيد في جبل شمر ، وعبد العزيز آل سعود في نجد ، وكان قد ضم إلي إمارته إقليم الأحساء عام ١٩١٣ . وكان الطرفين في عداء مستمر ، ولم تكن سيطرة الترك عليها تامة ، آلا أن آل رشيد انحازوا إلي جانب العثمانيين الذين كانوا يساعدونهم في نزاعهم ضد عبدالعزيز ، وقد أوفدت حكومة الهند الكابتن شكسبير لضمان تأييد عبدالعزيز ومساعدته لبريطانيا، وتمخضت المفاوضات عن عقد معاهدة في عام ١٩١٥ نصت علي اعتراف بريطانيا بإستقلاله في الأقاليم التي تتكون منها إمارته (نجد والأحساء والقطيف وملحقاتها) ، وفي مقابل ذلك تعهد بعدم إبرام أي اتفاق مع أية دولة أجنبية ، وعدم التنازل عن أي شئ من أراضية لدولة أجنبية أو أحد رعاياها ، كما تعهد بفتح الطريق الذي يمر ببلاده والمؤدي إلي الأماكن المقدسة في الحجاز ، وأن يحمي الحجيج في مرورهم من وإلي الأماكن المقدسة ، كما تعهد بعدم الاعتداء أو التدخل في شئون الكويت والبحرين وقطر ومشيخات ساحل عمان ، تلك المناطق التي كانت تحت حماية بريطانيا ، وترتبط ببريطانيا بمعاهدات .
الإتفاق بين بريطانيا والشريف حسين
إلا أن أهم محاولة من جانب بريطانيا لتدعيم مركزها في الشرق العربي ، كانت تتمثل في ذلك الإتفاق الذي عقدته مع الشريف حسين بن علي أمير مكه، فقد كان هذا الإتفاق علي جانب كبير من الأهمية والخطورة من حيث تأثيره علي مستقبل الشرق العربي ، ذلك أن بريطانيا بعد أن استقر رأيها علي الإستفادة من العرب ، واستخدامهم لإحلال الهزيمة بالدولة العثمانية لأهمية موقع بلادهم بالنسبة للإمبراطورية البريطانية ومصالحها .
فقد كان علي بريطانيا أن تختار أكثر المجموعات العربية في الدولة العثمانية صلاحية لقيادة العرب ضد الدولة العثمانية، وتنفيذ المخططات البريطانية، وعلي الرغم من أن الوطنيين السوريين كانوا أصلح العناصر وأقواها وعيا من الناحية السياسية ، إلا أنه كان من الصعب الوصول إليهم بحكم وجودهم في قلب الإمبراطورية العثمانية وتحت السيطرة التامة لها ، ولم يكن من الممكن إستخدام السوريين عن طريق زعمائهم في القاهرة ، الذين انقطعت صلتهم بمواطنيهم تقريبا ، كما أنه نظرا للمشاعر الوطنية لزعماء هذه المجموعة ، فقد أدركت السلطات البريطانية أنه سيكون من الصعب السيطرة عليهم ، وكبح جماح مشاعرهم الوطنية، واستخدامها لتحقيق مخططات بريطانيا التي تتعارض ولا شك مع أفكارهم الوطنية .
لذلك اتجهت بريطانيا نحو شبه الجزيرة العربية لبعدها عن مقر الدولة العثمانية، وضعف السيطرة العثمانية عليها، كما كانت بريطانيا تفضل في تعاملها مع العرب تغليب العنصر الديني ، وذلك من أجل مواجهة الهالة الدينية التي تحيط بالخلافة، التي أعلنت الجهاد في الحرب ضد دول الوفاق ، أي أن بريطانيا كانت تريد مقاومة الدين وإبطال تأثير إعلان الجهاد علي مسلمي الهند ، باستمالة زعامة عربية إسلامية قوية ، مما يساعد بريطانيا علي تجنيد الموارد البشرية في الهند لخدمة المجهود الحربي البريطاني، خاصة وأن مسلمي الهند تأثروا بالدعوة إلي الجهاد التي أعلنها الخليفة السلطان ضد بريطانيا وحلفائها .
وإذا قررت بريطانيا أن تولي وجهها شطر الجزيرة العربية، وفيها العديد من الرؤساء والزعماء فعلي أيهم يقع اختبارها ؟، لقد كان عبد العزيز آل سعود أمير نجد يتفوق علي كل زعماء الجزيرة العربية من حيث النفوذ والقوة لدرجة جعلت إحدي شخصيات المخابرات البريطانية تعتبرة أبرز شخصية في وسط الجزيرة العربية، إلا أن وجوده علي رأس العقيدة السلفية المتشددة، إلي جانب ما عرف عنه من قوة الشخصية ، بحيث ما كان ليترك مصير بلاده تتلاعب به السياسة الدولية ، حيث كان صعب المراس أمام المحاولات الأوربية للتغلغل في بلاده ، ولذلك اكتفي البريطانيون بالمعاهدة التي عقدت معه عام ١٩١٥ .
ولم يكن أحد من زعماء العرب الآخرين في شبه الجزيرة العربية يتمتع بمثل المركز الديني الذي يتمتع به شريف مكة، فقد كان ينتمي إلي الدوحة النبوية الشريفة ، بل أن الدولة العثمانية ذاتها كانت تعتبره من أكبر العمد التي ستقوم عليها دعوتها للجهاد ، ولذلك رأت بريطانيا أنها إذا ما كسبت الشريف إلي جانبها ، فإنها بذلك ستنجح في تجزئة الولاء في العالم الإسلامي بين زعامتين إسلاميتين ، وتحدث صدعا في الإسلام فيضعف مركز الخليفة الإسلامي ، يضاف إلي ذلك بعد الحجاز عن مقر الدولة العثمانية، بحيث كان من الصعب علي الدولة العثمانية أن تنقل إليه قوات عسكرية .
وعلي ذلك جرت اتصالات استطلاعية في البداية بين الأمير عبدالله بن الحسين والسلطات البريطانية في القاهرة في أوائل عام ١٩١٤ ، وقد أدركت السلطات البريطانية _ وعلي رأسها كتشنر المعتمد البريطاني في مصر _ أن الشريف حسين يأمل ألا تسمح الحكومة البريطانية بأن تمر في قناة السويس الإمدادات التركية التي ستستخدم في إخماد الثورة التي قد تنشأ في الحجاز إذا ما عزل والده الشريف ، وهكذا أدركت السلطات البريطانية أن لدي الشريف حسين رغبة في الثورة علي الحكومة العثمانية، فقد كان يطالب لنفسه في الحجاز بصلاحيات أوسع ، بينما كانت الحكومة العثمانية مصممة علي تطبيق قانون الولايات الجديد علي الحجاز .
وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى ، وحتي قبل أن تدخلها الدولة العثمانية، حاولت السلطات البريطانية في القاهرة _ بناءا علي تعليمات كتشنر الذي صار وزيرا للحربية _ الاستفسار حول ما إذا كان الشريف حسين _ إذا ما دخلت الدولة العثمانية الحرب _ هل سيؤيد الدولة العثمانية، أم سينحاز إلي جانب بريطانيا، إلا أن رد الشريف علي هذا الاستفسار لم يكن حاسما، ولعل ذلك يرجع إلي أن بريطانيا لم تتقدم بعروض للشريف ، ولذلك أرسلت السلطات البريطانية في القاهرة مره اخري _ بناء علي تعليمات كتشنر _ وعدا للشريف حسين بأنه إذا انحاز إلي جانب بريطانيا ضد الدولة العثمانية، فإن الحكومة البريطانية تضمن تأمينه وتأمين سلطته كشريف يتمتع بكافة حقوق وإمتيازات الشرافة، كما تتعهد بالدفاع عنه ضد أي هجوم خارجي ، كما تضمنت الرسالة وعدا بمساعدة العرب في محاولتهم نيل الحرية بشرط تحالفهم مع بريطانيا، كما لوح كتشنر بأن الشريف يستطيع الاعتماد علي بريطانيا إذ أعلن نفسه خليفة.
وقد صادفت رسالة كتشنر قبولا لدي الشريف ، لأنها فيما يختص بالحجاز أعطته ما كان يصبوا إليه وهو إستقلاله التام في نطاق الحجاز ، بل وفتحت أمامه باب الأمل في إمكان زيادة أحلامه في البلاد العربية الأخري ، كما لوحت له بالخلافة ، رغم ان عبارات الرسالة كان يتكنفها الغموض .
وفي السنة التالية أي عام ١٩١٥ بدأ الشريف حسين يطالب بمملكة عربية ، لا تقتصر علي الحجاز بل تضم بلاد الشرق العربي ، ذلك أنه في نفس الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تبحث عن زعامة دينية تساندها في الحرب ضد الخلافة العثمانية ، كان الوطنيون العرب في الشام يبحثون عن زعامة دينية يمكن أن تقود نضالهم ، حتي لا تتهمهم الدولة العثمانية بالمروق عن الإسلام، وشق عصا الطاعة علي أمير المؤمنين الخليفة .
ولذلك بدأت هذه العناصر الوطنية في الشام في الأتصال بالشريف حسين ، الذي أرسل إليهم إبنه الأمير فيصل ،وهو في طريقة إلي الأستانة لحضور جلسات البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) ، وتباحث فيصل مع زعماء الحركة العربية وتعرف علي مطالبهم، وفي عودته أيضا مر بدمشق حيث التقي بهم مرة أخري ، وعندما وصل إلي دمشق وجد أن التربة صالحة للثورة علي الترك وتأييد شريف مكة في موقفه من الدولة العثمانية، وذلك بسبب سياسة البطش والقمع التي اتبعها جمال باشا قائد الجيش الرابع العثماني المتمركز في الشام ، بعد أن اكتشف بعض المراسلات بين بعض زعماء العرب والقنصل الفرنسي ، وقد كشفت هذه الوثائق أن بعض هؤلاء الزعماء الوطنيين كانوا يريدون التخلص من الحكم العثماني لوضع بلادهم تحت حماية فرنسا .
وعندما التقي فيصل بالزعماء الوطنيين في الشام وجدهم موافقين علي الثورة علي الدولة العثمانية بالإعتماء علي مساعدة بريطانيا، علي أن يتولي الشريف حسين زعامتهم ، وعلي أن تقوم الثورة في الحجاز أولا ، وبعد ذلك تنتقل إلي الشام ، وذلك لصعوبة انطلاق الثورة من الشام لتمركز قوات عثمانية قوية فيها ، ووضع الزعماء العرب خطة لكي تكون أساسا لمفاوضات الشريف حسين مع بريطانيا، وقد عرفت هذه الخطة بإسم بروتوكول أو ميثاق دمشق . وأرفقت به خطة تبين حدود البلاد العربية في أسيا، والتي كان يرون ضرورة حصولها علي الإستقلال ، وقد نص بروتوكول دمشق علي ما يأتي:
- تعترف بريطانيا بإستقلال البلاد العربية الواقعة داخل حدود معينة تفصل بين البلاد العربية والبلاد التركية من ناحية ، وبين هذة البلاد العربية وفارس من ناحية أخري، أي تشمل الشام كله والعراق والجزيرة العربية ما عدا عدن .
- إلغاء الإمتيازات الأجنبية التي كان يتمتع بها الأجانب في نطاق نظام الإمتيازات في الدولة العثمانية.
- إبرام تحالف دفاعي بين بريطانيا والدول العربية عند استقلالها.
- منح بريطانيا الأفضلية في النواحي الإقتصادية .
وإذا كان بروتوكول دمشق قد اشترط استقلال البلاد العربية داخل الحدود المذكورة ، فقد كان المقصود من هذا الإستقلال التحرر من الترك وعدم الوقوع تحت سيطرة حكم أجنبي آخر، كما أن تفويض الزعماء العرب للشريف حسين للتكلم باسمهم والاتفاق مع بريطانيا علي هذه الأسس ، كان معناه انهم لا يلتزمون بأي إتفاق يتم الوصول إليه علي غير هذه الأسس ، خصوصا وقد أراد الزعماء الوطنيون العرب أن يقدموا لبريطانيا شيئا مقابل معونتها لهم ، وهي عقد تحالف دفاعي معها ، وإعطائها الأولوية في الشئون الإقتصادية، وعدم المساس بالوضع القائم في عدن .
وثمة ملاحظة أخري علي هذا البروتوكول، وهو أنه لم ينص صراحة في هذا الميثاق علي تكوين دولة عربية واحدة داخل كل المنطقة التي ذكرت حدودها ، حيث لم يكن من المعقول أن تتكون دولة واحدة في كل المنطقة ، لأن المفاوضات دارت بين الأمير فيصل مندوبا علي الحجاز والزعماء الوطنيين العرب في الشام والعراق ، ولم يشترك فيها ممثلون عن مناطق أخري كاليمن وعسير ونجد ، ولم يكن من المنتظر أن يقبل هؤلاء الزعماء التنازل عن إستقلال أقاليمهم والإندماج في دولة عربية تحت رئاسة الشريف .
مراسلات الشريف حسين / مكماهون
وعلي ضوء عرض بريطانيا علي الشريف ، وعرض الزعماء الوطنيين العرب عليه ، دخل الشريف حسين في مفاوضات مع السير هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر ، وهذه المراسلات تتكون من عشر رسائل ، خمس منها موجهة من الشريف حسين إلي السير هنري مكماهون ، وخمس موجهة من مكماهون إلي الشريف حسين .
وفي اول رسالة من الشريف حسين إلي سير هنري مكماهون أورد الشريف شروط العرب للانضمام إلي بريطانيا ، وهي لا تخرج عن الشروط الواردة في بروتوكول دمشق، مع إضافة بند خاص بالخلافة ، وبند خاص بمدة سريان الإتفاق ، وقد رد سير هنري مكماهون علي رسالة الشريف، ولكنه حاول أن يتملص من مسألة الحدود التي طالب بها الشريف استنادا إلي بروتوكول دمشق، وكان مكماهون يتذرع في هذا التملص ببعض الذرائع:
- أن بحث هذه المسألة أمر سابق لأوانه ومضيعة للوقت لأنها من قبيل التفاصيل والحرب لا تزال دائرة الرحي .
- الأتراك لا يزالون يحتلون اغلب الجهات إحتلالا فعليا .
- أن فريقا من العرب القاطنين في تلك المناطق لا يرغبون في معاعدة بريطانيا بل ويقدمون يد المساعدة إلي الترك والألمان.
ورد عليه الشريف حسين معبرا عن دهشته لهذا التردد والغموض، فيما يتعلق بالحدود ، وقال إن هذه الحدود ليست مطلب رجل واحد ، بل هي مطلب شعب ، وأنه(أي الشريف) يري ضرورة بحث هذه المسألة قبل كل شئ مع بريطانيا التي يعلقون عليها الآمال ، وذلك حفاظا علي المصالح المشتركة ، وللحيلولة دون اصطدامهم ببريطانيا أو إحدي حليفاتها (يقصد فرنسا) ، كما اضاف الشريف أن هذه الحدود لا يسكن داخلها شعب أجنبي ، وإدراكا من الشريف بأن بريطانيا تتهرب من بحث مسألة الحدود مع مراعاة لمصالح حليفتها فرنسا في الشام، وكذلك لمح في خطابة إلي مكماهون بأنه سيطالب بريطانيا في أول فرصة بعد إنتهاء الحرب بما يتركه لفرنسا في بيروت وسواحلها ، رغم تأكيدة بأنه لا يمكن السماح لفرنسا بالاستيلاء علي قطعة صغيرة في هذه المنطقة .
وكان لابد وأن يرسل مكماهون ردا علي رسالة الشريف الثانية ، وهذه الرسالة من جانب مكماهون تعتبر من أهم المراسلات وأهم الوثائق المتصلة بالحركة العربية ، لأنها تتضمن الوعود التي جذبت العرب إلي جانب بريطانيا، وصارت موضع نزاع في السنوات التي اعقبت الحرب ، واستناد العرب في توجيه الإتهام لبريطانيا بخلف وعودها لهم ، وفي هذه الرسالة الثانية حاول مكماهون أن يتهرب من مسألة حدود الدولة العربية التي يطالب بها الشريف حسين والوطنيون العرب ، متذرعا ببعض الذرائع والحجج الواهية، مثل :
- إن ولايتي مارسين والإسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة غرب مناطق دمشق وحمص وحماه وحلب (يقصد ساحل الشام) لا يمكن أن يقال انها عربية خالصة ، ولذلك يجب أن تستثني من الحدود المقترحة .
- عدم الإضرار بالمعاهدات المعقودة بين بريطانيا وبعض الرؤساء العرب مثل إمارات الخليج ونجد وعسير .
- وجود مناطق لا تستطيع بريطانيا التصرف فيها دون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا.
- إن ولايتي بغداد والبصرة لبريطانيا مصالح فيهما تستلزم اتخاذ إجراءات خاصة .
ويلاحظ من رد مكماهون أن المناطق التي شملها التحفظ كانت :
- مرسين وأطنة والساحل السوري بدعوي أنها غير عربية .
- المناطق التي فيها مصالح لفرنسا اي بلاد الشام .
- بغداد والبصرة لوجود مصالح بريطانية فيها .
- المناطق التي يرتبط أمراؤها بمعاهدات مثل الكويت وقطر ونجد وعسير .
فماذا كان موقف الشريف حسين من تحفظات مكماهون واستثناءاته علي الحدود ؟ رد الشريف حسين ووافق علي استبعاد مرسين وأطنة (ولم يتضمن رد الشريف استبعاد الإسكندرونة كما طلب مكماهون)،ولكن الشريف استثناء مناطق الساحل السوري الواقعة غربي (دمشق وحمص وحماه وحلب )، حيث أنها أقاليم عربية محضة “ولا فرق بين العربي والمسيحي والمسلم ” ، كما أن الشريف _ رغبة في تسهيل الإتفاق ، وثقة منه في بريطانيا _ وافق علي ترك الأراضي التي تحتلها القوات البريطانية في جنوب العراق تحت إدارة بريطانيا مقابل مبلغ من المال ، علي أن تكون فترة الإحتلال قصيرة ، كما وافق الشريف علي احترام اتفاقيات بريطانيا مع مشايخ وأمراء المنطقة العربية .
واستدرك مكماهون في خطابه التالي ، الذي كان يكتنفه الغموض والإبهام أيضا، فعبر عن ارتياح لموافقة الشريف علي استثناء أطنة ومرسين ، ولكنه في نفس الوقت تمسك بتحفظه الخاص بالمناطق الساحلية من الشام، علي أساس ذريعة أخري تختلف عن الذريعة التي اوردها في خطابه السابق ، وهي ارتباطها بمصالح فرنسا حليفة بريطانيا، وليس علي أساس أنها مناطق غير عربية خالصة ، وكرر في هذه الرسالة أن مصالح بريطانيا في ولاية بغداد تتطلب التنظيمات التي تستلزم نظرا أدق، أي مباحثات أخري لا تسمح بها الحالة الحاضرة .
وإزاء إصرار بريطانيا علي موقفها وتمسكها بتحفظها الخاص بالأجزاء الساحلية من شمال الشام ، وجد الشريف حسين نفسه في مأزق، فهم من ناحية يريد التحالف مع بريطانيا من أجل تحقيق مصالحه في الحجاز، ومن ناحية أخري فإن استثناء جزء من الشام من منطقة الإستقلال العربي كان إقتراحا لا يملك الموافقة عليه ، وقد وجد مخرجا لنفسه من هذا المازق بالتأجيل.
فأعرب في خطاب آخر إلي مكماهون أنه رغبة في عدم الإساءة إلي العلاقات بين بريطانيا وفرنسا، سيغض الطرف مؤقتا ثم يطالب بريطانيا بما يغض الطرف عنه لفرنسا في بيروت وسواحلها ، ومما يدعوا للدهشة أن يؤجل الشريف حسين البت في مصير هذه المنطقة من الشام وبدلا من الإصرار علي الوصول إلي إتفاق نهائي محدد ، صار يكتفي بالحصول علي موافقة بريطانيا علي الإعتراف بإستقلال العرب من حيث المبدأ ، أما مسألة الإدارة الإنجليزية في العراق والمصالح الفرنسية في الساحل السوري فقد تركهما الشريف معلقتين ، وكان الشريف حسين يظن أن بريطانيا لن تتخلي عنه من أجل فرنسا بعد الحرب ، لأن ذلك في مصلحة بريطانيا ذاتها، وما من شك في أن اي سياسي حصيف (أي مستحكم العقل جيد الرأى) ما كان ليجازف بالدخول في حرب وإعلان ثورة علي دولة الخلافة ، قبل أن يحصل علي ضمانات مؤكدة قاطعة ، لا بأوهام غامضة ، كما أن أي تعديل في الحدود التي وردت في بروتوكول دمشق يعتبر خروجا علي البروتوكول وغير ملزم للعرب ، ولربما كان من أسباب حنق كثير من العرب في الشام علي الأشراف ، ومعارضتهم لإدماج الشام في الحجاز في دولة واحدة تحت حكم الأشراف .
وإذا كانت آمال الشريف حسين في اتصالاته المبكرة مع المسئولين البريطانيين تقتصر علي الحجاز ، فإن هذه الأمال كما يبدوا من مراسلات مع مكماهون لم تلبث أن اتبعت لتشمل الشام والعراق ، وذلك بعد أن لمس نتيجة الإتصال بالوطنيين العرب في الشام وازدياد كراهية عرب الشام لحكم الاتحاديين.
انحسار الحكم التركي عن الحجاز
وبعد أن توهم الشريف حسين بالوصول إلي إتفاق مع بريطانيا، وموافقة بريطانيا علي مطالبه ، انتهز فرصة غضب الوطنيين في الشام بسبب بطش جمال باشا بزعمائهم، ليقوم بالثورة حتي يضمن وقوف السوريين وراءه وهم في اوج سخطهم علي الترك ، وفي صباح ٥ يونيو (حزيران ) عام ١٩١٦ توجه الأميران علي وفيصل إلي المعسكر الذي كانت تتجمع فيه قوة قوامها نحو ألف وخمسمائة من المجندين، وأعلنا إستقلال العرب عن الحكم التركي، ويعتبر هذا الإعلان بداية الثورة العربية .
أما في مكة فقد بدأت الحركة بعد أيام ، ففي ١٠ يونيو (حزيران) هوجمت ثكنات ومراكز الحاميات العثمانية في مواقع متعددة في وقت واحد ، واستسلمت بعض المواقع وقاوم البعض الآخر لفترة قصيرة ، وبعد استسلام مكة هوجمت جدة ، وبعد ذلك اتجه الأمير عبدالله إلي الطائف وحاصرها حتي سقطت ، كما نجح العرب في الاستيلاء علي رابغ وينبع، ثم اتخذ الأمير فيصل طريقه بعد ذلك نحو الوجه ليجعل منها قاعدة لعملياته صوب الشمال ، وسقطت في يناير (كانون ثاني ) عام ١٩١٧.
ومن الأمور التي وقعت ، وكان يجب أن تنبه الشريف إلي نوايا بريطانيا وحليفتها فرنسا، أنه في ٣٠ أكتوبر(تشرين اول) عام ١٩١٦ اجتمع شيوخ القبائل ووجوه الحجاز وعلماؤه، وبايعوا الحسين بن علي ملكا علي العرب ،وذلك بمناسبة العام الهجري الجديد ، وشكلت اول وزارة عربية برئاسة الأمير علي (رئيس الوكلاء) ، وتولي الأمير عبدالله الخارجية ، وأذاع الأمير عبدالله بصفته بلاغا أبلغ فيه وزارات خارجية الحلفاء والدول المحايدة بهذه الخطوة ، التي لم تستقبلها سلطات الحلفاء باستحسان ، واعتبرها خطوة غير حكيمة وسابقة لأوانها ، وبعد أن تبادلت الحكومتان البريطانية والفرنسية الرأي في هذا الأمر استقر الرأي علي الإعتراف بالحسين ملكا علي الحجاز فقط .
وإذ أيقن الشريف حسين صعوبة الحصول علي قوات أجنبية (مسيحية ) لمعاونته، رأي أن يعمل علي إنشاء قوة نظامية ، وتفاوض مع السلطات البريطانية في ميادين فلسطين والعراق والدردنيل وعلي حدود مصر الغربية، وعين القائد عزيز علي (المصري) رئيسا للأركان، ولكن لم تطل إقامة عزيز علي (المصري) في الحجاز إذ انسحب بعد ثلاثة أشهر .
واقوي الآراء في تعليل انسحابه وعودته إلي مصر أنه أدرك أن البريطانيين غير مخلصين في تعاملهم مع العرب ، وأنهم لن يفوا بوعودهم، وكان كما يقول بعض المعاصريين يري أنه من الموافق للترك العرب أن يكونوا كالنمسا والمجر، وهو الرأي الذي نادت به الجمعية القحطانية وجمعية العهد .
وفي ختام العمليات الحربية في هذه المرحلة الأولي دخل العرب بقيادة الأمير فيصل ميناء الوجه في يناير (كانون ثاني) عام ١٩١٧، وفي هذه المرحلة الأولي كانت الأعمال الحربية مقصورة علي الحجاز ، وكان للثورة العربية نتائج غير قليلة، فقد أسرت عدة آلاف من الجنود الترك ، كما حاصرت أربعة عشر ألفا في المدينة المنورة، والإستيلاء علي الوجه أصبحت تشكل تهديدا خطيرا علي مواصلات الترك بين المدينه المنوره ودمشق ، كما أن الثورة احتجزت في اليمن ثلاث فرق تركية عاجزة عن العمل بسبب انقطاع صلتها وعزلها عن قواعدها في الشام ، ولا شك في أن هذه النتائج كانت ذات فائدة جليلة للحلفاء ، بالإضافة إلي نجاح الثورة في سد الطريق إلي البحر الأحمر والمحيط الهندي في وجه أي تقدم تركي ألماني.
وبعد سقوط الوجه بدأت المرحلة الثانية من الثورة ، وانتهت بسقوط العقبة في يوليو(تموز) عام ١٩١٧، وكان سقوط العقبة أمرا علي جانب كبير من الأهمية ونقطة تحول كبري ، فبعد أن كانت الأعمال الحربية والثورة مقصورة علي الحجاز ، وكان قوامها العناصر التي قدمتها القبائل، أما الأن فبعد سقوط العقبة اتسع نطاق الثورة وأصبح سقوط العقبة مقدمة لنقل مسرح القتال إلي الشام مركز تجمع القوات التركية التي يساندها الألمان ، وأصبحت القوات العربية المتمركزة علي قاعدتها في العقبة تشكل الجناح الأيمن للحملة التي سوف تخرج من مصر تحت قيادة الجنرال اللنبي لغزو الشام ، بعد أن فشلت محاولة بريطانيا سابقة في ذلك، كما أنه بالإنتقال إلي العقبة شمل قوات فيصل بعض التطور من حيث التكوين والتشكيل، فأصبحت تتكون من جيش نظامي مدرب، إلي جانب رجال القبائل .
وبعد هاتين المرحلتين الحربيتين اللتين كللتا بالنجاح كان العرب يستعدون لمواصلة الزحف علي بقية بلاد الشام وإخراج الأتراك منها وفاء بتعهداتهم والتزاماتهم التي سجلت في اتفاقية الحسين / مكماهون ، ولكن في الوقت الذي كان العرب يقومون فيه بدورهم الذي تعهدوا به ويوفون بوعودهم، كانت بريطانيا تطعنهم طعنات خطيرة ، وتتفق مع حلفاؤها علي اقتسام أقاليم الشرق العربي وتوزيعها أسلابا بين المستعمرين، مما جعل الدبلوماسية البريطانية تتسم بالغدر والخديعة والخيانة ، وتتمثل هذه الطعنات في طعنتين أساسيتين، أولاهما اتفاقية سايكس/بيكو، والثانية تصريح بالفور.
خيانة بريطانيا لعرب المشرق
أولا : اتفاقية سايكس/بيكو
وتتمثل الطعنة الأولي في اتفاقية سايكس/بيكو، التي عقدت بين دول الحلفاء الثلاث (بريطانيا وفرنسا وروسيا ) في عام ١٩١٦، وقد نشأت إتفاقية سايكس/بيكو نتيجة اتفاقية أخري سابقة وهي اتفاقية الأستانة في عام ١٩١٥، ذلك أن الروس كانوا في موقف حرج بسبب مواجهتهم لضغط من جانب المانيا في شرق أوربا، وضغط من جانب الترك في جبهة القوقاز ، وقد طالب الروس حليفتهم بريطانيا وفرنسا بفتح جبهة ثانية تشغل القوات التركية وتخفف الضغط عنهم ، ومن ثم نشأت فكرة حملة الدردنيل أو غاليبولي وذلك في الشهور الأولي من عام ١٩١٥،ولكن هذه الحملة أثارت مخاوف الروس من أنه إذا صارت المضايق في قبضة الحلفاء فقد يكون من المتعذر إخراجهم منها .

وبدأوا يشكون في نوايا الحلفاء في انهم يريدون الحيلولة دون وقوع المضايق في قبضة الروس، وهي المنطقة التي كان الروس يطمعون في الاستحواذ عليها في حالة الإنتصار ، وعرضت بريطانيا وفرنسا تعهدات شفوية من الحلفاء ، ولكن الروس لم يكتفوا بهذه التعهدات بل كانوا يريدون عقد إتفاق محدد وملزم بخصوص الأستانة والمضايق، ومن أجل إقناع بريطانيا وفرنسا عرضت روسيا عليهما أن يأخذا ما يشاءان من بقية ممتلكات الدولة العثمانية مقابل ذلك، وبعد تردد اضطرت الحكومتان الغربيتان بريطانيا وفرنسا للإستجابة لطلب روسيا خوفا من خروج روسيا من صفوفهم وعقدها صلحا منفردا مع المانيا .
وبعد تعهد بريطانيا وفرنسا للروس في اتفاقية الأستانة التي لم تكن لها صلة مباشرة بالشرق العربي ، فقد بدأت الدولتان الغربيتان مفاوضاتهما بشأن بقية ممتلكات الدولة العثمانية في أسيا، وكانت فرنسا بالذات أشد تلهفا علي إتفاق لتقسيم الشرق العربي إلي مناطق نفوذ بينها وبين بريطانيا خوفا من ضياع مصالحها في المنطقة، خصوصا وأن العمليات العسكرية في المنطقة تقوم بها قوات بريطانية، كما كانت فرنسا تخشي أن تكون المباحثات بين بريطانيا والشريف حسين علي حساب مصالح فرنسا في الشام.
وبدأت المفاوضات في لندن عام ١٩١٥، وكان يمثل فرنسا جورج بيكو، وكان يمثل بريطانيا سير مارك سايكس، وتمحضت المفاوضات عن الاتفاقية التي عرفت بإسميهما(اتفاقية سايكس /بيكو) ، والإتفاقية السرية الإنجليزية الفرنسية، واتفاق القاهرة علي أساس أن المفاوضات بشأنها جرت في إحدي مراحلها في القاهرة ، واتفاقية سايكس/بيكو عبارة عن مذكرات متبادلة بين حكومات بريطانيا وفرنسا وروسيا، وفيها حددت المناطق العثمانية التي تعتبرها كل دولة منطقة نفوذ لها ، وترغب في أن تعترف لها حليفاتها بها .
ونصت الاتفاقية علي أن تكون منطقة الساحل السوري منطقة نفوذ فرنسي مباشر، ولونت علي الخريطة المرفقة بالإتفاقية باللون الأزرق، وإلي جانب ذلك حصلت فرنسا علي منطقة تضم داخل الشام بمدنه الاربعة الرئيسية (دمشق وحمص وحماه وحلب)، إلي جانب الموصل وتكون تحت النفوذ الفرنسي غير المباشر وسميت في الخريطة الملحقة بالإتفاقية بالمنطقة “أ”
أما منطقة النفوذ البريطاني المباشر فكانت ملونة علي الخريطة باللون الأحمر، وكانت تضم أراضي القطر العراقي بما في ذلك بغداد والبصرة ما عدا الموصل، هذا إلي جانب منطقة تحت حكم بريطانيا غير المباشر ، وسميت علي الخريطة بالمنطقة “ب” ، وتتضمن المنطقة الداخلية من العراق والواقعة بين العراق وفلسطين، هذا بالإضافة إلي حصول بريطانيا علي منطقة علي ساحل فلسطين تشمل حيفا وعكا .
وكانت هذه الاتفاقية معيبة، لأنها:
- كانت تالية لاتفاق بريطانيا مع الشريف حسين ومناقضة له ، مما أدي إلي وقوع حوادث مؤسفة علي مر السنين.
- ان الاتفاقية مزقت منطقة الشرق العربي بطريقة تهدف إلي وضع عقبات مصطنعة في طريق وحدتها .
- إن الاتفاقية أخضعت المنطقة الأكثر رخاءا وتقدما للسيطرة الأجنبية المباشرة خوفا من مطالبتها بالاستقلال، بينما وضعت المناطق الأقل تقدما تحت السيطرة الأجنبية غير المباشرة ، أي تقام فيها دول عربية تتمتع بقسط من الحكم الذاتي حيث لا خوف من مطالبتها بالإستقلال.
إقرأ أيضا: خضوع العرب للحكم العثماني
وقد ظلت الاتفاقية سرا ولكن أذيعت في أواخر عام ١٩١٧، وذلك عندما نشبت الثورة في روسيا، ونشرت الصحف الروسية نصوص الاتفاقيات التي كانت موجوده في وزارة الخارجية، وذلك لرغبة الحكام الروس الجدد في إثبات أن العهد القيصري كان عهدا استعماريا ، وقد نشرت إحدي الصحف البريطانية(مانشيستر جارديان) ترجمة إنجليزية للنص الروسي من المعاهدات السرية .
وقد أرسل جمال باشا قائد الجيش الرابع في الشام نص هذه الاتفاقيات المنشورة إلي الأمير فيصل، لكي يثبت للعرب أن الحلفاء وضعوا الخطط والمشروعات السرية التي تتعارض مع استقلال العرب، وتؤدي إلي خضوع البلاد العربية لبريطانيا وفرنسا.
وعندما علم الشريف حسين بأمر خطاب جمال باشا والمعاهدات، استفسر من المندوب السامي البريطاني في مصر، وقد ردت الحكومة البريطانية علي الملك حسين وشكرته علي إخلاصه، وبررت المعاهدة بأن الترك يحاولون بذر بذور الشقاق بين الحلفاء والعرب، وأن بريطانيا وحلفائها مصممون علي الوقوف إلي جانب الشعوب العربية في جهادها من أجل إقامة عالم عربي يحل فيه القانون محل الظلم العثماني، وهذا كلام غامض وغير محدد .
ثم أضافت الحكومة البريطانية مبررات أخري فادعت ان الوثائق التي كانت موجودة في سجلات وزارة الخارجية الروسية لا تمثل اتفاقية مبرمة فعلا، ولكنها محاضر محادثات وتبادل وجهات نظر بين بريطانيا وفرنسا وروسيا جرت في بداية الحرب وقبل الثورة العربية، وأن جمال باشا أهمل أنه كان لابد من موافقة الشعوب المعنية، كما تجاهل أن الثورة العربية ونجاحها الباهر وانسحاب روسيا من الحرب قد خلق ظروفا مختلفة تماما لأن هذه الاتفاقية لم تكن ستنفذ نظرا لخروج روسيا من جانب الحلفاء ونجاح الثورة العربية، وعلي ذلك استمر الملك حسين في ثقته ببريطانيا ووعودها، وكان ممثلوا بريطانيا في الشرق مثل لورانس يغذون هذا الشعور .
إلا أنه ترتب علي هذه الاتفاقيات السرية الخاصة بالشرق العربي واقتسامه، خصوصا وأنه أعقبها تصريح بالفور الخاص بالوطن القومي اليهودي في فلسطين، أن غضب الزعماء السوريون في القاهرة واعلنوا أن عرب الشام والعراق قد فقدوا ثقتهم في الحلفاء ، وليسوا علي استعداد للتعاون معهم ما لم يصدر بيان حاسم لا غموض فيه حول مستقبل الشام والعراق، وساد رأي لدي بعض المراقبين المحايدين في المنطقة بأن عدم تعاون العرب مع الحلفاء وملك الحجاز سيشكل تهديدا خطيرا للقوات البريطانية، وقد اقترح مراقب أمريكي علي حكومته أن تتدخل حكومته لكي تقنع العرب الذين فقدوا الثقة في بريطانيا وفرنسا بأن مصالح العرب ستكون موضع الإعتبار في مؤتمر الصلح بعد الحرب ، وأن مصيرهم سيتقرر علي يد دول العالم وليس علي يد بريطانيا وفرنسا وحدهما.
ثانيا : تصريح بالفور
لم تكن اتفاقية سايكس/بيكو هي الطعنة الوحيدة التي وجهتها بريطانيا إلي الأمة العربية، بل وجهت إليها طعنة أخري، طعنة لا تزال الدماء تسيل من جرائها رغم انقضاء ثلاثة أرباع قرن عليها، ولا تزال الأمة العربية تحاول أن تجد علاجا ناجحا لهذا الجرح الدامي، وهذه الطعنة الثانية تتمثل في تصريح بالفور الذي اصدرته الحكومة البريطانية في الثامن من نوفمبر (تشرين ثاني)عام ١٩١٧، وبه قوي أمل الصهيونية في تحقيق الأماني التي كانت تتطلع إليها منذ نهاية القرن التاسع عشر كحركة سياسية تدعوا إلي إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين .

وماذا كانت العوامل التي دفعت بريطانيا إلي إصدار هذا التصريح؟ ، فعلي الرغم من أن المنظمة الصهيونية العالمية عندما نشبت الحرب العالمية الأولى كانت تعلن أن في نيتها الوقوف علي الحياد، فإنها لم تلبث أن فطنت إلي أن الجانب الذي يمكن أن تستفيد منه في تنفيذ مخططاتها هو جانب الوفاق _وبريطانيا بالذات_ خصوصا وأن بريطانيا بعد دخول الدولة العثمانية الحرب تخلت عن سياستها الشرقية التقليدية، وصار من بين أهدافها تجزئة الدولة العثمانية ومن بين ممتلكاتها فلسطين، وكانت فلسطين ذات أهمية خاصة بحكم موقعها الجغرافي ومجاورتها لمصر وقناة السويس، وعلي الأخص إذا كانت بلاد الشام ستؤول إلي حليفتها فرنسا، وكانت بريطانيا لا تريد أن تكون منطقة نفوذ فرنسا في الشام ملاصقة لمنطقة نفوذ بريطانيا في مصر وقناة السويس، مما سيؤدي إلي تهديد خطير لخطوط مواصلات الإمبراطورية البريطانية .
أي أن الهدف الأول لدي البريطانيين كان إنشاء منطقة حاجزة في فلسطين، وإذ أدركت الصهيونية هذه الاتجاهات في السياسة البريطانية فقررت ربط المخططات الصهيونية بالمصالح الإستعمارية البريطانية، ولذلك كان الزعيم الصهيوني وايزمان يشبه فلسطين بأنها ستكون مثل بلجيكا في أوربا، خصوصا إذا ما شملها التقدم علي يد اليهود وانتقل إليها مهاجرون يهود “وبذلك يتوفر لبريطانيا حاجز ويتوفر لنا وطن” .
كما كان الساسة البريطانيون يريدون ملء الفراغ الذي سيترتب علي انهيار الإمبراطورية العثمانية بإقامة دولة يهودية في فلسطين، كما أنها ستكون محطة علي الطرق الجوية إلي الشرق في المستقبل، ولما كانت فلسطين تقع في جزء من الشام ضمن منطقة النفوذ التي ستحصل عليها فرنسا ، فقد استطاعت السياسة البريطانية أن تزحزح فرنسا بالتدريج، وكانت المرحلة الأولي اتفاقية سايكس/بيكو التي قررت تدويل فلسطين، وبعد ذلك تحاول بريطانيا الحصول علي فلسطين لا من النفوذ الفرنسي ولكن من الإدارة الدولية .
وعندما أدرك الزعماء الصهيونيون هذه الرغبة لدي الحكومة البريطانية، صاروا يعلنون عن رغبتهم في أن تكون بريطانيا هي الدولة التي تتولي الحماية علي فلسطين، خصوصا وأن الصهيونية العالمية تتحكم في اليهودية العالمية.
وإلي جانب كل هذه الأسباب كان هناك سبب آخر وهو أن بريطانيا نتيجة العمليات الحربية التي تقوم بها في العراق، كانت ستستولي علي العراق ضمن منطقة نفوذها ، وقررت بريطانيا أنه يجب ألا تفصل العراق عن مصر البريطانية أرض تخضع لحكومة أخري، وكان إصدار التصريح أيضا يعتبر خطوة عملية من جانب بريطانيا لدق إسفين في قلب العالم العربي كوسيلة لمواجهة الحركة العربية والحيلولة دون نجاحها في جمع شمل الأمة العربية.
وكان هناك مشروع ظهر في السياسة البريطانية في عام ١٩٠٧ عندما وضع تقرير يبحث في الخطر الذي يهدد الإستعمار، وتوصل التقرير إلي نتيجة مؤداها أن الخطر علي الإستعمار يكمن في السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط، وأنه إذا ما تحرر الشعب في هذه المنطقة (أي الشعب العربي) فإنه لا سبيل لتفادي هذا الخطر إلا بالعمل علي تجزئة المنطقة ومحاربة اتحاد سكانها، وهذا ما يتحقق بتنفيذ اتفاقية سايكس/بيكو.
كما أوصي التقرير بضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة عن الجزء الآسيوي بإقامة حاجز بشري قوي وغريب ، يشكل وعلي مقربة من قناة السويس قوة حليفة للإستعمار، وكما قال أحد الساسة البريطانيين “نحن لا نستطيع أن نكون اصدقاء للعرب ولليهود في وقت واحد، وإنني أود منح صداقة البريطانيين لليهود وحدهم باعتبارهم الشعب الذي سيكون صديقنا المخلص في المستقبل”.
وماذا كان موقف العرب من التصريح ؟.
فبالنسبة لموقف الشريف حسين الذي تصدي لزعامة العرب في تلك الفترة ، فإنه مثلما جازت عليه من قبل خديعة بريطانيا عندما علم باتفاقية سايكس/بيكو وصدقها، فقد جازت عليه خديعتها هذه المرة أيضا خصوصا وأن تصريح بالفور لم يكن سرا لكي تنكره الحكومة البريطانية كما أنكرت إتفاقية سايكس/بيكو، ولكنها استخدمت مع الملك حسين سلاح الترغيب والترهيب لإرغامة علي قبول الأمر الواقع ، وقد كان يجهل تماما حقيقة الصهيونية ومطامعها .
ولذلك عندما طلب إيضاحا من السلطات البريطانية أبلغته بأنها عازمة علي ألا توضع عقبة في سبيل إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وهذا بمثابة تهديد، أما من ناحية الترغيب فقد أشارت إلي أن صداقة العالم اليهودي للقضية العربية معناه ان تكسب هذه القضية تأييد البلاد التي لليهود فيها نفوذ سياسي، واقتنع الملك حسين لدرجة أنه طالب الشعب العربي بأن كتبه المقدسة تحض علي التسامح والكرم، ويحضهم علي الترحيب باليهود كإخوة والتعاون معهم من أجل الصالح العام .
أما الزعماء السوريون المقيمون في القاهرة فقد بعثوا ببرقية احتجاج إلي وزير الخارجية البريطاني بالفور، يلتفتون نظره إلي أن فلسطين جزء حيوي من الشام ، ولكن الحكومة البريطانية ردت بأن عدم التوفيق بين الحركة العربية وبين وجهات نظر الحكومات والعناصر الأخري (يقصد اليهود) يجعلها تحرم من التعاون السياسي الضروري ، وأن الصهيونيين مستعدون للتعاون مع العرب في تحرير الشام والأجزاء الباقية تحت الحكم التركي ، وأن معارضة العرب لليهود ستضر بالقضية العربية، وحاول أن يبين لهم مدي نفوذ الصهيونية في كل أنحاء العالم .
وعلي ما يبدوا فإن الزعماء السوريين شعروا بالإطمئنان بعد التأكيد البريطاني بأنه لن تقام دولة يهودية في فلسطين، ولو أنه إذا كان الصهيونيون والمسئولون البريطانيون يرددون أنه ليس في النية إنشاء حكومة يهودية في فلسطين في ذلك الوقت، فإن هذا الهدف سيتحقق ولكن علي مراحل، اولاهما فتح باب الهجرة اليهودية في ظل إدارة صديقة في فلسطين، ولا ننسي أنه مما أضعف معارضة السوريين في مصر أنهم كانوا يعيشون في كنف بريطانيا.
وهكذا نري بريطانيا اتبعت سياسات متناقضة ، فما السبب في ذلك ؟،يري البعض الساسة البريطانيين كانوا يضعون عدة حلول للمشكلة ثم ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث قبل أن يختاروا الحل النهائي، ولذلك صار للسياسة البريطانية عدة إتجاهات متعارضة، فقد كانت هناك قوي مختلفة في المنطقة لها أهداف متعارضة ، وتريد بريطانيا أن ترتبط بها جميعا لأهميتها في كسب الحرب وحماية الهند وقناة السويس، ومن ثم تحالفت مع الحركة العربية من أجل هزيمة الدولة العثمانية، ثم إقامة حكومات عربية في نفس المناطق علي أن تكون تحت حماية بريطانيا .
كما كان هناك اعتبار آخر وهو إدعاءات فرنسا في بلاد الشام بحدودها الجغرافية كمنطقة نفوذ لها، ورغبة حكومة الهند في السيطرة علي العراق كخط دفاع أمامي عن الهند ومنفذ للهجرة ولحماية أبار النفط، وكذلك فإنه لم تكن هناك هيئة بريطانية واحدة تخطط السياسة البريطانية في منطقة الشرق العربي، فقد كان لوزارة الحربية أفكارها ، ولوزارة الخارجية آراؤها ، ولدار المندوب السامي البريطاني في القاهرة وجهة نظرها، ولحكومة الهند أهدافها ، وقد حاولت بريطانيا بسياساتها المتناقضة أن ترضي مختلف الأطراف التي تتعامل معها مؤقتا، بأن تعد كلا منها بما تريد علي أمل أن يصير من المحتمل التوفيق بطريقة ما بين المطالب المتعارضة، أو إقناع كل طرف من هذه الأطراف بجزء مما وعد به.
إقرأ أيضا: الوعي العربي في المشرق
انسحاب الترك من الشرق العربي
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب – الحملة علي الشام
في منتصف عام ١٩١٧عينت الحكومة البريطانية الجنرال اللنبي Allenby لقيادة الحملة التي تخرج من مصر لإخراج الأتراك من الشام، وكان قائد الحملة السابق قد استطاع خلال النصف الثاني من عام ١٩١٦ أن يطرد الترك من صحراء سيناء، ويمد خطا حديديا وأنابيب مياه عبر الصحراء بإستخدام جيش من العمال المصريين، وكانت فرنسا تشترك في هذه الحملة الجديدة بفصيلتين من الجنود الفرنسيين للعمل تحت إمرة القائد العام البريطاني، وأطلق علي الحملة برمتها جيش الشرق، واستولت الحملة علي غزة ثم يافا ثم القدس، ولم يصل عام ١٩١٧ إلي نهايته إلا وقد أصبحت قوات الحملة البريطانية تسيطر علي الجزء الجنوبي من الشام والذي كان يعرف بإسم صنجقية القدس.
ولا شك في أن القوات البريطانية لقيت في تقدمها وبتأثير الدعاية العربية كل معاونة من السكان بوصفهم حلفاء جاءوا لتحرير بلادهم، فتخلي الضباط والجنود العرب عن مراكزهم في الجيش العثماني ولجأوا إلي الخطوط البريطانية، كما تطوعوا للإدلاء بمعلومات كان لها قيمتها عن مواقع الترك، خصوصا وأن قوات الأمير فيصل(الجيش النظامي) المجتمع في العقبة قد اشترك في هذه الحملة مما أشعل الحماس وجعل العرب يتطوعون في هذه القوة العربية .
وعندما قرر اللنبي التقدم علي طول الساحل والإستيلاء علي المدن الساحلية ساعده العرب تحت قيادة فيصل لتحطيم خط سكة حديد الحجاز، وقد اختار اللنبي أن تتقدم القوات البريطانية علي طول الساحل لتكون تحت حماية مدفعية الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، ولكي يتجنب التعامل مع القبائل تاركا تلك المهمة للقوات العربية بقيادة فيصل التي تتقدم في الداخل كجناح أيمن للحملة .
ويلاحظ أن قوة فيصل تطورت شكلا وموضوعا، وقد تغيرت من حيث التكوين بحيث تضاءل فيها العنصر الحجازي ، وأصبحت قواته سواء النظامية أو البدوية تتكون في معظمها من أهالي سوريا وفلسطين والعراق، أي من رجال كانت لهم مصلحة مباشرة ، واستمر التقدم واستطاعت القوات العربية احتلال معان ثم عمان ثم درعا، أما القوات البريطانية فكانت تشق طريقها صوب الشمال علي طول الساحل، بينما كان رجال القبائل يكيلون الضربات لقوات الجيش العثماني في أثناء تقهقرها .
وفي ٣٠ سبتمبر(أيلول) دخلت بعض القوات غير النظامية العربية مدينة دمشق ورفع العلم العربي (علم ملك الحجاز) علي قاعة بلدية دمشق، أما القوات النظامية العربية فقد دخلت دمشق في صباح اول أكتوبر(تشرين الأول) ، وتركت دمشق للعرب لإدارتها وفاء بالوعد .
وكان لسقوط دمشق أهمية سياسية كبري إذ أن العرب كانوا يعتبرون أن سقوطها يقوي الأمل في تحقيق الأماني الوطنية بإقامة الدولة العربية المستقلة تمام الإستقلال وتكون بلاد الشام جزءا منها، ولكن شبح اتفاقية سايكس/بيكو كان يخيم علي هذه الآمال .
وبعد دخول فيصل دمشق وترحيب الاهالي به دخل اللنبي دمشق بعد أن وصلته انباء من عدة جهات بأن عليه وقف التيار العربي وسد الطريق أمام فيصل واحلامه، وأن يتذكر إتفاقية سايكس/بيكو، وقابل اللنبي فيصل وأفهمه أن الحرب لم تنته بعد، وأن الأراضي التي احتلتها القوات التي تحت قيادته سواء كانت بريطانية أو فرنسية أو عربية تعتبر من اراضي العدو، وأن بريطانيا مسئولة عن إدارة هذه المناطق، وأن لديه تعليمات بالسماح للفرنسيين بالسيطرة علي المنطقة غربي دمشق وحلب والتي تتضمن بيروت ولبنان اي المنطقة الزرقاء في إتفاقية سايكس/بيكو، أما المنطقة التي تضم دمشق وحمص وحلب وحماه اي المنطقة “أ” فقد أبلغ اللنبي فيصل أنها ستكون تحت حماية فرنسا التي تعهدت بأن تقيم فيها دولة عربية مستقلة .
وبعد دخول دمشق أوفد العرب مندوبا عن الشريف حسين هو شكري باشا الأيوبي لتنظيم حكومة عربية في بيروت ورفع العلم العربي علي المباني العربية ، حيث أقيمت بإسم الملك حسين حكومة جديدة في بعابدة بلبنان موالية لحكومة فيصل في دمشق، الأمر الذي آثار شكوك الفرنسيين في نوايا فيصل بل ونوايا بريطانيا، واحتج الفرنسيون ولذلك أمر اللنبي بعض ضباطه بالتقدم إلي بيروت وعزل شكري الأيوبي وإنزال الأعلام الحجازية والسماح للقائد البحري الفرنسي بإنزال قواته إلي البر .
وبعد سقوط دمشق طلبت الحكومة البريطانية من اللنبي أن يتقدم إلي حلب ويحتل بقية الشام، وقد تم تنفيذ ذلك قبل نهاية أكتوبر(تشرين اول)عام ١٩١٨، أما في الداخل فقد تم احتلال حمص وحماه وحلب ، وأسهم العرب بنصيب كبير في الحملة الثانية .
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب – إخراج الترك من العراق
إستطاعت الحملة البريطانية القادمة من الهند ضد العراق أن تنزل في الفاو عند مصب شط العرب في الخليج ، ثم احتلال البصرة ، وقام السير بيرسي كوكس كبير الضباط السياسيين للحملة بإصدار بيان باللغة العربية أعلن فيه أن الحكومة البريطانية لا تحمل ضغينة ضد الأهلين، وأنهم سوف يتمتعون بالحرية والعدالة في ظل العلم البريطاني والإدارة البريطانية، طالما وقفوا موقف الحياد بين القوات البريطانية والتركية ، وامتنعوا عن حمل السلاح ضد بريطانيا، وهكذا نري أن الموقف في العراق كان يختلف عن الموقف في الشام، فبينما في الحملة علي الشام كانت القوات العربية تسهم بنصيب كبير فيها ، فإن الحملة علي العراق لم تحاول جذب الاهالي إلي جانبها ضد الترك ، لأنه كان لابد من بذل وعود محددة وضمانات معينة، خصوصا ان المسئولين في حكومة الهند والذين كان يطلق عليهم (مدرسة الهند) كانوا ضد استخدام العرب ضد السلطان العثماني ،حتي لا يضطروا لإصدار وعود تشجع الإتجاه الاستقلالي بين العرب .
بالإضافة إلي الخوف من إثارة سخط العناصر الإسلامية في الهند ضد البريطانيين، وسارت الحملة صوب الشمال بمحاذاة دجلة، واستطاعت الاستيلاء علي كوت العمارة ثم الناصرية ثم بغداد، بعد أن أصيبت الحملة البريطانية بنكسة عند سالمان باك _أي المدائن_ وأدي إلي تقهقرها إلي الكوت ، إلا أن الترك لم يستغلوا هذا النصر الذي أحرزوه علي البريطانيين ، كما أنه في ذلك الوقت أبرمت إتفاقية سايكس/بيكو وكان الجزء الجنوبي والأوسط من العراق _اي البصرة وبغداد_ سيكون من نصيب بريطانيا، وقد أدي ذلك إلي تشجيع البريطانيين علي الإسراع من أجل الاستيلاء علي ما أصبح نصيب بريطانيا في هذا الإتفاق.
كما تردد كلام كثير في البرلمان البريطاني عن الرغبة في جعل العراق مستعمرة هندية، وقد تمكن البريطانيون من استعادة كوت العمارة ثم التقدم إلي بغداد التي سقطت في مارس (آزار) عام ١٩١٧، وبعد سقوطها أصدر الجنرال مود القائد الجديد للحملة بيانا باللغتين العربية والإنجليزية أعلن فيه أن القوات البريطانية لم تأت إلي العراق غازية بل محررة، وأن بريطانيا والأمم المتحالفة معها ترغب وتأمل في أن ينهض الجنس العربي ليحتل مكانه بين شعوب الأرض، ودعا العراقيين إلي المساهمة في إدارة شئونهم المدنية بالتعاون مع ممثلي بريطانيا السياسيين الذين يوافقون القوات البريطانية،
ويلاحظ أن هذا البيان لم يذكر شيئا عن استقلال العراق، بل تضمن عبارات غامضة غير محددة، وذلك لأنه طبقا لإتفاقية سايكس/بيكو كان في النية إقامة حكم بريطاني مباشر في ولاية البصرة، ونظام عربي تحت حماية بريطانيا في ولاية بغداد وما يليها غربا، ونظاما عربيا تحت حماية فرنسا في ولاية الموصل ، ولذلك وبعد البيان فإن دخول البريطانيين بغداد لم يقابل بالترحاب من الأهلين .
وبعد وفاة الجنرال مود خلفه الجنرال مارشال الذي تقدم صعودا مع نهر دجلة في طريقة إلي الموصل ، وعندما صار علي بعد اثني عشر ميلا من الموصل علم بعقد هدنة مودروس في ٣٠ أكتوبر(تشرين الاول) عام ١٩١٨، ووقف القتال منذ ٣١ أكتوبر(تشرين اول ) ،ومع ذلك فقد تقدمت القوات البريطانية واحتلت الموصل بعد اسبوع من عقد الهدنة ، مما يدل علي تصميم البريطانيين علي احتلال الموصل وتثبيت أقدامهم فيها علي أمل زحزحة فرنسا منها بعد ذلك .
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب – انسحاب الأتراك العثمانيين من اليمن
ظل الحكم العثماني قائما في اليمن طوال فترة الحرب العالمية، ولم يكن اليمن مسرحا لعمليات حربية بإستثناء هجمات الترك علي عدن والجنوب إلي أن انتهت الحرب وأعلنت الهدنة ، وفرض الحلفاء شروطهم التي تقضي بتسليم القوات العثمانية في اليمن والمدينة المنورة وعسير مع معداتها، فذهب علي سعيد باشا قائد القوات العثمانية في لحج إلي عدن حيث استسلم هو وجنوده، كما تجمعت القوات العثمانية في اليمن في اللحية والحديدة، ونقلهم البريطانيون إلي عدن كأسري حرب، ثم نقلوا إلي مالطة فالأناضول.
أما الإدارة العثمانية في صنعاء فقد حاولت خدمة الإمام ، إذ رأي الوالي محمود نديم أن يدخل الإمام صنعاء ويتسلم قصر غمدان والأسلحة مقابل ما للإمام من ديون علي الترك، بل وحاول محمود نديم قبل خروج العثمانيين مباشرة أن يبرز شخصية الإمام وأن يمنحه مظاهر السيادة ، واعترف في خطاب إلي حاكم عدن بأن الإمام أصبح الوارث الطبيعي للحكم العثماني والحاكم الشرعي لليمن بعد خروج العثمانيين، ولذلك فقد ابقي الإمام محمود نديم ومعه عدد من الموظفين العثمانيين في بعض المناصب الحكومية مستعينا بخبرتهم في إدارة دولته، إلا أن حاكم عدن رد علي رسالة محمود نديم ورفض الدخول في مفاوضات مع الإمام علي أساس أنه كان محايدا وليس طرفا في الحرب.
أثر الحرب العالمية الأولي علي العرب – منطقة الخليج
كانت بريطانيا قد أصدرت في ٣ نوفمبر (تشرين ثاني ) عام ١٩١٤ تبليغا إلي الشيخ مبارك أمير الكويت بإستقلال الكويت تحت الحماية البريطانية، كما ظلت العلاقات بين قطر وبريطانيا تستند إلي المعاهدة التي أبرمت في ٣ نوفمبر (تشرين ثاني ) عام ١٩١٦، وفيها تعهد الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني بألا تكون له علاقات مع أية دولة أخري دون موافقة الحكومة البريطانية.
إقرأ أيضا: حرب طروادة من خلال الإلياذة والأوديسة
استمرار بريطانيا في خديعة العرب
في السابع من نوفمبر (تشرين ثاني ) عام ١٩١٨ أصدرت الحكومتان البريطانية والفرنسية معا تصريحا مشتركا،تضمن بيان الأهداف التي تسعي إليها الحكومتان، ونشر في صحف فلسطين والشام والعراق، ووزع في المناطق البدوية والحضرية علي شكل منشورات ، وفي هذا التصريح أعلنت الحكومتان أن الهدف الذي تسعيان إليه من متابعة الحرب في الشرق هو التحرير التام والنهائي للشعوب التي طال اضطهاد الترك لها، وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من الاختيار الحر للأهالي ، وأنه من أجل تحقيق هذه الأهداف اتفقت الدولتان علي تشجيع إقامة حكومات وإدارات وطنية ومساعدتها في كل من الشام والعراق اللذين حررهما الحلفاء.
والتصريح تتسم عباراته بالغموض لأنه استنادا إليه كان من الممكن تشكيل مجالس بلدية مثلا للاشتراك في إدارة البلاد ، ويدعي الحلفاء أنهم شكلوا إدارات وطنية، وكان السبب المباشر لإصدار هذا التصريح هو محاولة إزالة ما ترتب علي إنزال العلم العربي في بيروت من استياء في البلاد العربية التي كانت تحتلها القوات المتحالفة، وقد تصور بعض العرب أن هذا التصريح إنما هو بديل أو علي الاقل تعديل لبنود إتفاقية سايكس/بيكو. وستثبت الأيام خطأ هذا الإعتقاد.
وهكذا نري أنه لم تكد الحرب العالمية الأولي تضع أوزارها في عام ١٩١٨ حتي كان الحكم التركي قد انحسر عن أقطار المشرق العربي في أسيا ، وبدأ كما لو كان عرب هذه المنطقة سيبدأون عهدا ينعمون فيه بالحرية والاستقلال استنادا إلي حقهم المشروع، وإلي دورهم في تحرير بلادهم ، وإلي وعود الحلفاء ، وكان آخرها التصريح البريطاني الفرنسي المشترك، ولكن هذه الآمال لم تلبث أن انهارت ،فقد كانت الدول الأوربية الإستعمارية _وبخاصة بريطانيا وفرنسا تدبران من وراء العرب أمرا آخر يهدف إلي وضع معظم الشرق العربي تحت سيطرة الدولتين الغربيتين ، وسيظهر ذلك منذ عقد مؤتمر الصلح في باريس في أوائل عام ١٩١٩.