
الأسرة الثانية عشرة ( ١٩٩١- ١٧٧٨ق.م) .
الملك أمنمحات الأول .

يعتبر عصر هذه الأسرة ازهي عصور الدولة الوسطي في نواحي نشاطه الداخلية والخارجية .
وقد بدأ الحكم فيه بملك عرف بإسم( امنمحات الأول ) الذي لم يكن ينحدر من سلالة ملكية ، فقد كان والده من العامة يدعي ( سنوسرت) واستطاع بفضل مهارته أن يتولي منصب الوزير في عهد منتوحتب الرابع آخر ملوك الأسرة الحادية عشر .
أما كيف وصل إلي العرش فهذا أمر لا يمكن معرفته حتي اليوم ، ونحن لا نستطيع أن نقرر إن كان قد خلع سلفه وأحل نفسه علي العرش مكانه ، أم انتهز فرصة موته ليعتلي العرش كأقوي رجل في الدولة ، وما من شك في أن البلاد كانت في حاجة إلي شخص في مثل كفائته وجرأته .
وكان من أهم الأمور التي واجهته عند تولية الحكم تنظيم أمور البلاد الداخلية ، ولكنه لقي الكثير من المصاعب ، وقامت كثير من القوي الرجعية ضده .
فكان من بين أساليب رده علي خصومه كتابته البردية المعروفة بإسم تنبؤات ( نفرتي)[1]والتي كانت بمثابة دعاية ألفها بعض أنصاره لكي يظهروا ملكهم الجديد في هيئة المنقذ المنتظر ، وأن يوهموهم بأن العناية الإلهية قد تخيرته منذ الأزل ، وأن المتنبئين بشروا به منذ عهد سنفرو وقبل مولده بقرون طويلة ، وخلاصتها أن الحكيم نفرتي أخذ يصور للملك سنفرو أياما يتوقعها للمستقبل ، يهلك الحرث والنسل فيها ويشيع الفساد بها ، ويظل أمرها كذلك حتي ترسل العناية الإلهية ملكا من أهل الجنوب يدعي (أميني ) يولد لسيدة من إقليم تاستي ( بالنوبة) ، فيصلح الحال ويسعد به أهل عصره ، واسم اميني الذي بشرت به النبوءة هو ذات الإسم المختصر لأمنمحات في عهد الدولة الوسطي .
علي أية حال فقد تمكن هذا الملك من أن يخضع حكام الإقطاع لسلطانه وأن يكون له فضى كبير في إعطاء مصر عصرا من عصورها الذهبية ،وقد قضي علي الفوضي التي عمت البلاد ونشر السلام في ربوعها.
كما يعتبر بمثابة اول ملك يحتضن الإله آمون ( الخفي) الذي لم يكن معروفا بين آلهة الدولة القديمة ، فسماه ( امون رع) وجعله رب الأرباب ، وكان من حكمة امنمحات الأول أنه لم يتخذ طيبة عاصمة لملكه حتي لا يصادم عواطف القوم ، كما لم يتخذ مدينة منف عاصمة له ،إنما اتخذ العاصمة الجديدة في اللشت وكانت بعدية مسافة تقدر بحوالي ثمانية عشر كيلو متر إلي الجنوب من منف وكانت تسمي ( اثت تاوي) بمعني( القابضة علي الأرضين ) مشيرا بذلك إلي الوجهين القبلي والبحري .
وقد ترك أمنمحات لولده سنوسرت الأول تعاليما تعطينا صورة واضحة صادقة عن هذا العهد ليس فقط في السياسة الخارجية ، بل وفي السياسة الداخلية أيضا .
ويمكننا أن نري آثار نشاط هذا الملك في جهات كثيرة من مصر ، فبقايا معابده منتشرة في سيناء ،وشرقي الدلتا ،ومدينة الفيوم ( كيمان فارس – كروكوديلوبوليس ) ، إذ كان أول ملوك تلك الأسرة الذين اهتموا اهتماما خاصا بذلك الإقليم لإستصلاح أراضيه والاستفادة من بحيرته .
علي أية حال حكم هذا الملك قرابة ثلاثين عاما اشترك خلالها إبنه معه في الحكم ، إلا أنه قدر له أن يموت مقتولا في قصره ، إذ انتهز أعداؤه فرصة غياب إبنه وولي عهده وشريكه في الملك سنوسرت، في حملة علي ليبيا ودبروا مقتله ، وربما كان ذلك الاغتيال بسبب التنافس علي العرش بين أفراد العائلة نفسها .
ونعرف بعض التفاصيل عن تلك النهاية من برديتين أحداهما هي بردية رجل يدعي ( سنوهي) كانت تربطه بالعائلة المالكة رابطة قرابة، وقد سمع بهذا النبأ وهو علي مقربة من خيمة ولي العهد فانتابه الذعر ، ونحن نجهل الأسباب التي من أجلها فر هذا الرجل بعيدا حتي استطاع مغافلة الحراس علي الحدود الشرقية وهرب إلي فلسطين ومنها إلي لبنان حيث أقام بها ، أما البردية الثانية فتسجل وصية الملك إلي ولده سنوسرت الأول .
الملك سنوسرت الأول .

بدأ نشاطه بالاشتراك مع أبيه في تصريف شئون البلاد لمدة عشر سنوات ثم انفرد بالعرش بعد موت أبيه مدة تقرب من خمسة وثلاثين عاما .
وقد بلغ العمران في عهده درجة كبيرة ، وكان من أهم ما شيده هو بناء معبد جديد في مدينة أون للإله رع اله الشمس، الذي كان له الفضل في وصوله إلي العرش ، وقد اندثرت آثار هذا المعبد الكبير ولم يبق منه سوي مسلته العظيمة والتي تزال قائمة في المطرية حتي اليوم ، وقد نقش عليها اسمه وأقامها بمناسبة احتفاله بعيد السد .
كذلك أقام مبني صغير داخل معبد الكرنك كان يستخدم أثناء الاحتفالات كإستراحة لسفينة الإله أمون رع ، وقد عثر علي جميع أحجاره داخل الصرح الثالث الذي شيده أمنحتب الثالث ،وأعيد تركيبها حديثا داخل المعبد ، وتعد نقوشه من أجمل ما أخرجته يد الفنان المصري في أي عصر من العصور .
وإلي جانب ذلك شيد لنفسه هرما بالقرب من هرم أبيه في اللشت .
كما كان للفيوم نصيب خاص من عنايته ، واستؤنف في عهده عمليات استغلال المناجم والمحاجر علي أوسع نطاق ، حتي لقد بلغ الأمر إلي إيفاد بعثة إلي وادي الحمامات مؤلفة من سبعة آلاف رجل لقطع الأحجار اللازمة لبعض أعماله ، ولإستخراج الذهب والنحاس من هذه المناجم .
وقد سجل لنا حاكم إقليم الوعل وكان يدعي ( اميني) الكثير من أحوال البلاد في عصر هذا الملك ، وكان من بينها فيما يختص بالعداله قوله ( انني لم أظلم أرملة ولم أحتقر فلاحا ، ولا راعيا ولم أسخر عمالا في أي عمل ، ولم يوجد فقير ولا جائع في عهدي ، ولما جاءت سني القحط قمت بحرث كل أراضي الأقاليم ولم يبق جائع فيها ، وأكرمت الأرمل والزوجة بدرجة واحدة ، ولم أخير الغني علي الفقير ) وسواء صدق هذا الحاكم أم كان ذلك علي سبيل الإدعاء والتفاخر ، فإن هذا النص لخير دليل علي وجود دستور للحكم الصالح يرغب الحاكم في أن يتصف به ، وهو في جوهره يقوم علي العدل والإنصاف بينه وبين محكوميه .
الملك امنمحات الثاني .

شارك في الحكم ثلاث سنوات في حياة أبيه ثم انفرد به بعد ذلك مدة تقرب من ثلاثين عاما ، ولم يكن مثل من سبقه من الملوك في نشاطه الحزبي أو المعماري، فقد كانت الحالة الداخلية آمنة ، كما كانت صلات مصر بغيرها صلات صداقة ومودة ، فعم البلاد رخاء اقتصادي عظيم .
واهتم اهتماما شديدا بالزراعة وبإرسال بعثات التعدين وقطع الأحجار الي مناطق سيناء وأسوان والنوبة ، كما دعم الحصون التي بناها أسلافه فوق الأراضي النوبية لحماية وتعزيز الحدود الجنوبية ، وأرسل بعثتين إلي بلاد بونت لإحضار منتجاتها من العطور والصموغ .
الملك سنوسرت الثاني .

وقد وصفه المؤرخ المصري ( مانيتون) بأنه كان من أطول الملوك قامة ، إذ بلغ طوله أربعة أذرع وثلاث قبضات واصبعين أي أكثر من مترين ولكنه لم يتحدث عنه كثير، وربما يرجع ذلك إلي قصر مدة حكمه نسبيا ، إذ لم يزد عن تسعة عشر عاما بما في ذلك الفترة التي اشترك فيها مع والده .
وقد أقام لنفسه هرمان باللاهون عند مدخل الفيوم ، بناه فوق صخرة مرتفعة وأكمل بناءه مستخدما الأحجار والطوب اللبن ثم كساه من الخارج بالحجر الجيري .
كما أرسل البعثات إلي بلاد بونت وسيناء ووادي الحمامات لإستغلال ما بها من مناجم ، وقطع الأحجار اللازمة لمشروعاته العمرانية .
بالإضافة إلي ذلك فقد بدأ تنفيذ المشروع الكبير الخاص بالتحكم في مياة النيل عند منطقة الفيوم واستغلال مياهه في ري أراضي هذه المنطقة ، وقد أتم خلفاؤه من بعده هذا المشروع وخاصة في عهد حفيده أمنمحات الثالث .
الملك سنوسرت الثالث .

وهو يعد بحق من أعظم من جلسوا علي عرش الفراعنة عبر العصور خصوصا وأنه قد طالت سنين حكمه حتي بلغت ثمانية وثلاثين عاما .
وامتاز عهده بالقضاء التام علي نفوذ حكام الأقاليم وعلي نظام الإقطاع، ثم بأعماله الحربية في النوبة وفلسطين وسوريا .
وقد عمل منذ توليه الحكم علي ضم النوبة نهائيا إلي مصر ، فشق لأسطوله طريقا بين صخور الشلال الأول ، وأنشأ مهندسوه هذا الطريق المائي في أصعب مناطق الشلال الجرانيتية لمسافة مائتين وستين قدما بعرض أربعة وثلاثين قدما وعمق ستة وعشرون قدما ، وحمل علي النوبة عدة حملات أدت إلي توطيد السلطة المصرية بها ، كذلك قام بتشييد حصنين متقابلين عند آخر الحدود الجنوبية للدولة علي شاطئ النيل أحدهما في سمنه والآخر في قمه ، ولى تزال آثار هذين الحصنين للآن تشهد لمصر في تلك الأوقات بالبراعة الحربية والكفاءة في إختيار مواقع الدفاع الحصينة، والمقدرة علي تشييد الحصون المنيعة ، وعلي الحدود الجنوبية في سمنة نصب سنوسرت الثالث لوحته المشهورة التي يتحدث فيها إلي المصريين عن الكفاح .
وفي عهد سنوسرت الثالث اتصل النيل لأول مرة في التاريخ بالبحر الأحمر عن طريق قناة عرفت بإسم قناة سيزوستريس وهو الإسم الذي أطلقه الإغريق علي هذا الملك .
غير ذلك فقد ترك هذا الملك وراءه في أماكن كثيرة من البلاد آثارا تدل علي نشاطه المعماري فبني المعابد الكثيرة وأقام آثارا له في أشهر المعابد التي شيدها من سبقه من الملوك .
أما عن أعماله الحربية فقد قاتل جميع القبائل التي حاولت الإغارة علي الحدود الشرقية ،وتعقبهم حتي داخل الأراضي الفلسطينية حيث فرض السلطان المصري علي هذه البقاع .
الملك أمنمحات الثالث .

يعتبره بعض المؤرخين واحدا من أعظم من حكموا مصر ، فقد حكم مدة تقرب من خمسة وأربعين عاما مرت دون مشاكل تذكر وحفلت بالمشارع العمرانية الكبيرة .
وكان من أعظم هذه المشاريع وضع نظام ري الوجه البحري الجديد ، فقد استفاد من وجود منخفض إقليم الفيوم الذي يقل في مستواه عن مستوي سطح البحر بمائة وثلاثين قدما وحوله إلي خزان للمياه ،إذ أقام المهندسون عند فتحة هذا المنخفض سدا كبيرا حجز كميات هائلة من المياة فنشأت البحيرة الكبيرة التي عرفت بإسم بحيرة موريس ، والتي كانت تمد النيل بالماء خلال فترة التحاريق عن طريق القناة المعروفة بإسم بحر يوسف ، وقد نتج عن ذلك استصلاح أراضي زراعية كثيرة قام بإستغلالها بالفعل مما ساهم في الانتعاش الإقتصادي للبلاد .
أما المشارع العمرانية الأخري التي تنسب إلي عهد هذا الملك فكان أعظمها بناء ذلك المبني الذي أطلق عليه الإغريق إسم ( اللابيرانث) والذي ربما استخدم كمجمع ديني وإداري ،كما حوي مجموعات من الحجرات مساوية لعدد مقاطعات مصر الإدارية ، وفي كل مجموعة منها تماثيل لألهة المقاطعة الرئيسية ، وكان مظهر هذا المجمع الخارجي من الأبهة والضخامة لدرجة جعلت هيرودوت يسرع إلي زيارته ويصفه بقوله: ( إن اللابيرانث عمل يعجز عن وصفه البيان ، إذ لو قدر لامرئ أن يجمع معرضا للمباني والآثار الفنية التي شيدها اليونانيون لبدت عملا أقل من الأعمال التي تمت إلي اللابيرانث وإذا كانت الأهرام تجل عن الوصف فإن اللابيرانث يفوق الأهرام ) ، وللأسف لم يبق من هذا المبني أية بقايا تذكر ، إلا أن الأبحاث التي تمت حتي الآن تشير إلي أن هذا البناء استعمل كمعبد جنازي وأنه كان يضم مقاصير لمقاطعات مصر .
وهكذا يمكننا أن نلمس كيف ارتفعت شهرة إقليم الفيوم ، وأصبح من أكثر أقاليم مصر عمارا .
علي ايه حال فقد حكم هذا الملك مدة تقرب من الخمسين عاما نعمت فيها البلاد بالأمن والسكينة ، وقد أشرك إبنه قرب نهاية حكمه في تولي شئون الحكم .
الملك امنمحات الرابع .

اشترك مع أبيه في الحكم، ولكن مدة حكمه لم تطل حيث تذكر لنا بردية (تورين) عدد سنين حكمه بتسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوما ، ولعل ذلك يبين لنا مدي الدقة التي بدأ التاريخ يدون بها .
علي أيه حال فإن هذا الملك علي ما يبدوا لم يكن علي غرار أسلافه في الهمة والنشاط، ويشير عصره إلي بدء مرحلة الانهيار في عصر الدولة الوسطي، وبدء زوال ذلك المجد الذي تمتعت به البلاد أكثر من قرنين من الزمان .