تاريخ واثار

خضوع العرب للحكم العثماني

تفاصيل حول حكم العثمانيين للعرب

يبدأ تاريخ العالم العربي الحديث والمعاصر بالخضوع للحكم العثماني في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي. والأتراك العثمانيون كانوا قبيلة من آسيا الوسطى هاجرت غربا أمام الضغط المغولي حتى وصلت العناصر القادرة فيها إلي الأناضول. حيث كونوا إمارة تركية في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وصارت هذه الإمارة تحمل اسم أميرها عثمان.

واستطاعت فيما تبقي من ذلك القرن وطوال القرنين التاليين أن تتوسع في كل من آسيا الصغرى علي حساب الإمارات السلجوقية التركية والإمارات المسيحية. وأيضا علي حساب بقايا الممتلكات البيزنطية في الأناضول وفي شبه جزيرة البلقان. واستمرت موجة التوسع العثماني في أوربا حتى بعد انهيار الإمبراطورية البيزنطية وسقوط عاصمتها الفلسطينية علي يد السلطان محمد الثاني (الفاتح) عام ٧٥٧ه/ ١٤٥٢م.

وشهدت هذه الفترة أيضا تحول الإمارة العثمانية تدريجيا، حتى أصبحت إمبراطورية عظمى. وانتقلت عاصمتها من بروسة إلي أدرنه. حتى استقرت في القسطنطينية بعد فتحها عام ١٤٥٣م وصارت تحمل اسم إسلامبول أي مدينة الإسلام.

إتجاه العثمانين نحو الشرق

في عام ١٥١٢ حدث تحول كبير في الغزوات العثمانية، وذلك عندما تولى عرشها السلطان سليم الأول. ففي عهده توقفت فتوحاتها في أوربا مؤقتا. لكي تتجه نحو الشرق الإسلامي والعربي في آسيا وأفريقيا، وهناك عدة آراء في تعليل توجه العثمانيين نحو الشرق. ومن هذه الآراء ما يقول بأن هذا التحول يرجع إلي أنه سار من الصعب على الدولة في عهد سليم الأول أن تواصل فتوحاتها في أوربا بدعوى أنها وصلت إلى درجة التشبع. ولكن ما يبطل هذا الرأي أنه بمجرد وفاة السلطان سليم الأول عام ١٥٢٠ عاد ابنه وخليفته سليمان المشرع (القانوني) إلي توجيه فتوحات الدولة العثمانية إلي أوربا مرة أخرى. وتوغل في قلبها حتى استولي علي بودابست عاصمة المجر من إمبراطورية النمسا، بل ووصل إلي أسوار مدينة فيينا عام ١٥٢٩.

وهناك رأي آخر يقول بأن السبب في هذا التحول كان يرجع إلي رغبة العثمانيين في حماية الشرق الإسلامي من الخطر الاستعماري البرتغالي الصليبي. الذي كان قد استشرى بعد نجاح البرتغاليين في كشف طريق رأس الرجاء الصالح إلي الهند. فحاولوا انتزاع النشاط التجاري البحري في المحيط الهندي من أيدي العرب والمسلمين. كما حاولوا بالتعاون مع الحبشة توجيه حملة بحرية ضد الحجاز للاستيلاء علي جده. لولا أن الله أرسل عليهم ريحا عاتية عصفت بسفنهم، وهذا الرأي مقبول لأن العثمانيين حتى قبل أن يفتحوا الشام ومصر حاولوا مساعدة سلاطين المماليك في مقاومة النشاط البرتغالي في البحار الشرقية. ولعل السلاطين العثمانيين أدركوا عجز المماليك وحدهم عن التصدي بفاعلية للبرتغاليين. فرأي العثمانيين أن يتحملوا وحدهم من دون المماليك عبء الدفاع عن الشرق الإسلامي ضد البرتغاليين.

وثمة تبرير ثالت لإتجاه العثمانين نحو الشرق العربي والإسلامي، ألا وهو رغبة السلطان سليم في ضم الأماكن المقدسة الإسلامية إلي دولته. حتي يدعم مركزها كدولة إسلامية سنية في مواجهة أعدائهم، الذين كانو يتمثلون في أوربا المسيحية ودولة الفرس الشيعية ،وهذا التبرير مقبول أيضا.

ولكن رغم كل هذه التبريرات، فإن الأحداث التي كانت تجري وقتها (أي مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي) في هذه المنطقة هي المسئولة الأولى عن هذا التحول في إستراتيجية الدولة العثمانية. فقد كانت تجاوب الدولة العثمانية في الشرق دولتين إسلاميتين: الدولة الصفوية الشيعية في فارس. ودولة المماليك السنية في مصر والشام. وقد كان وجود هاتين الدولتينوالدولة الصفوية بالذاتيحمل بين ثناياه خطرا يهدد الدولة العثمانية، ويعجل الصدام أمرا محتوما.

ذلك أن الأسرة الصفوية، التي قامت في فارس عام ١٥٠١ كان يجيش في صدرها شعور قومي ديني بزعامة الشاه إسماعيل الصفوي، الذي حاول إعلاء كلمة المذهب الشيعي في الأقطار المجاورة لفارس. فغزا العراق في عام ١٥٠٨ من أجل ضم مزارات الشيعة في النجف وكربلاء. بل وساورته أطماع لنشر المذهب الشيعي في الأناضولعقر دار الدولة العثمانيةحيث استجاب لدعوته بعض رعايا السلطان. فانتشر بينهم مذهب شيعي فوضوي يسمي (قزلباش) أي الرأس الأحمر، حيث كان أتباع هذا المذهب يرتدون عمامة حمراء…

وكان من الطبيعي أن تهب الدولة العثمانية السنية لمواجهة هذا الزحف الشيعي، الذي ينطوي علي خطر سياسي كبير يهدد كيان الدولة العثمانية من أساسه، فإتجه السلطان سليم إلي العراق ومنها إلي فارس. حيث أنزل الهزيمة بإسماعيل الصفوي في معركة جالديران عام ١٥١٤. ودخل العاصمة تبريز، وإستولي علي المناطق الشمالية من بلاد ما بين النهريين (كردستان وديار بكر والموصل). ثم عاد سليم إلي عاصمته بعد أن إطمأن إلي زوال الخطر الشيعي الفارسي عن دولته.

ولكن هذه الحرب كانت لها نتيجة أخري، وهي أنه بإستيلاء العثمانين علي هذه المناطق من الصفويين، صارت الممتلكات العثمانية مجاورة لدولة المماليك في الشام. مما أدي إلي وقوع الصدام بين الدولتين، خصوصا وقد كانت هناك أسباب أخري تؤثر علي العلاقات بين الدولة العثمانية ودولة المماليك وتؤدي إلي الصدام. مثل الخلاف علي تخطيط الحدود. وإيواء السلطان المملوكي قنصوة الغوري لبعض الأمراء العثمانين المعارضين للسلطان سليم، ثم الموقف المانع غير المحدد الذي وقفه الغوري إبان الحرب بين السلطان سليم والشاه إسماعيل الصفوي. فلا هو إنضم صراحة إلي الشاه ولا أيد العثمانيين. ولا هو إلتزم بالحياد الدقيق بينهما، حيث أخد حاكم إمارة ذي الغادر الخاضع لحماية المماليك يتعرض لمرور المؤن في طريقها إلي الجيش العثماني الزاحف علي فارس. مما آثار غضب السلطان سليم ودفعه إلي القضاء علي هذه الإمارة، وبذالك أصبح العثمانيون يطوقون الممتلكات المملوكية في شمال الشام.

الغزو العثماني لمصر والشام

عندما اشتعلت الحرب بين العثمانين والمماليك زحف السلطان سليم علي الشام، ونجح في كسب بعض أعوان الغوري مثل خاير بك نائب السلطان في حلب، وجان بردي الغزالي نائب السلطان في حماه، وبسبب هذه الخيانه واستعمال الجيش العثماني للمدفعية الثقيلة انهزمت القوات المملوكية في مرج دابق شمال حلب في أغسطس(آب) عام ١٥١٦، وهي المعركه التي قتل فيها الغوري. ثم دخل السلطان سليم حلب وإنحاز إليه الخليفة العباسي المتوكل علي الله الذي كان يقيم في القاهرة. مما شجع السلطان سليم علي مواصلة الزحف والإستيلاء علي بقية مدن الشام، واتجه صوب مصر حيث أنزل بالسلطان المملوكي الجديد طومان باي هزيمة عند الريدانية في صحراء العباسية في يناير (كانون ثاني) عام ١٥١٧، ودخل العثمانيون القاهرة ، وصار يخطب للسلطان سليم في مساجدها.

وبعد دخول القاهرة ابدي طمان باي ومن إلتف حوله من المماليك والعربان وأفراد الشعب مقاومة للعثمانين ، سواء في القاهرة ذاتها أو في الصعيد، ومع ذالك فإن النصر في النهاية كان حليف العثمانين، وقبض علي طومان باي وأعدم شنقا علي باب زويلة في إبريل (نيسان) عام ١٥١٧، وبذالك أصبحت الشام ومصر من الممتلكات العثمانية.

خضوع الحجاز للعثمانين

ولقد ترتب علي خضوع مصر والشام للعثمانين، وزوال دولة المماليك، أن دخل الحجاز تلقائيا وسلميا ضمن الدولة العثمانية، بدلا من السيادة الرسمية المملوكية ، فقد رأي الشريف بركات شريف مكة أنه لا ضرر من أي يتحول بولائه إلي العثمانين بعد انهيار دولة المماليك، بل علي العكس سيكون لهذا التحول فائدته من ناحية الحماية والمساعدات، ولذالك فإنه عندما دعاه السلطان سليم للدخول في طاعة العثمانين استجاب علي الفور. وأرسل إبنه أبونمي يحمل مفاتيح الحرمين الشريفين إلي السلطان سليم في القاهرة تعبيرا عن الولاء ، فمنحه السلطان سليم تفويضا بحكم مكة حيث صارت الخطبة بإسم سليم، وبذالك احتفظت الدولة العثمانية بنظام الشرافة، وأنشأت صنجقية عثمانية في جدة، وأصبح تعيين شريف مكة بيد السلطان العثماني.

الغزو العثماني لليمن

دخلت بلاد اليمن تحت السيادة العثمانية سلميا في بداية الأمر، كما حدث بالنسبة للحجاز، وذالك عندما أصدر السلطان سليم أمرا بتثبيت إسكندر الجركسي واليا علي اليمن مثلما كان في عهد المماليك، إلا أن النزاع استمر بين القواد الجراكسة في اليمن، مما أدي إلي زعزعة النفوذ العثماني. مما دفع العثمانين إلي إرسال حملة بقيادة سليمان باشا الخادم عام ١٥٣٨، دخلت عدن بترحيب من حاكمها عامر بن داود الطاهري، الذي كان في نزاع مع إمام اليمن، إلا أن الجنود العثمانين أعملو فيها النهب والسلب، بل وغدر سليما باشا الخادم بأمير عدن نفسه،مما كان له أسوأ الأثر علي سمعة العثمانين.

ثم حاولت الدولة العثمانية في عام ١٥٥١ أن تزيل الأثر السيئ الذي أحدثته سياستها، فعينت واليا جديدا علي اليمن هو مصطفي باشا النشار من أجل التفاهم مع الأئمة الزيدية ،ونجح الوالي في ذلك.

ولم يلبث أن عاد الحكم العثماني في اليمن إلي سيرتة السيئة، وتجدد النزاع بين الزيدية والعثمانين ، ونجح الزيديون في طردهم من معظم جهات اليمن، فأرسلت الدولة العثمانية حملة كبري لإعادة فتح اليمن بقيادة سنان باشا عام ١٥٦٨-١٥٦٩. وهو ما يسمي بالفتح العثماني الثاني لليمن، وخاض سنان باشا حربا عنيفة ضد الزيدية، حتي توصل الطرفان إلي إتفاق يقضي بأن يحكم إمام الزيدية بإسم السلطان العثماني.

ولكن تجدد النزاع مرة أخري، ونجح الزيديون في انتزاع صنعاء وتعز وعدن، بل وخرجوا العثمانيون من اليمن كله عام ١٦٣٦، وعلي الرغم من عودة الحكم العثماني إلي اليمن مرة أخري، فقد ظلت الثورات تعم اليمن دون انقطاع.

الفتح العثماني للعراق

أسفر الصدام الأول بين العثمانين والصفويين في جالديران عام ١٥١٤ عن سيطرة العثمانين علي المناطق الشمالية من بلاد ما بين الشهرين(كردستان وديار بكر والموصل )، أما العراق الأوسط والجنوبي فقد ظل تحت سيطرة الفرس، وفي عهد السلطان سليمان المشرع قفز ذوالفقار الكردي السني إلي منصب حاكم بغداد، وأعلن ولاءه للسلطان العثماني. إلا أن الحكم الصفوي عاد إلي بغداد ، وقدر السلطان سليمان خطورة عودة الحكم الفارسي للعراق علي ما سبق أن حصلت عليه الدولة العثمانية، خصوصا وقد تحالف الشاه مع ملك المجر عدو السلطان، الذي اعتبر ذلك خيانة للإسلام. لذلك زحف السلطان سليمان بقواته علي العراق لفتح بغداد عام ١٥٣٤، ورغم إهتمامه برفع شأن أهل السنة فقد كان معتدلا في معاملة الشيعة، ومنح السلطان للبصرة شبه استقلال تحت قبائل المنتفق، ولكن تبين للسلطان أنه لابد من إخضاعها للسيطرة العثمانية بالكامل، حتي لا تحول_بحكم موقعها_ بين العثمانين وأعدائهم البرتغاليين، الذين كان لابد من منازلتهم في البحار الشرقيه.

وهكذا خضع العرق من الشمال إلي الجنوب للحكم العثماني، ومع ذلك لم يخلص نهائيا للعثمانين، فقد استرده الفرس أكثر من مره وبخاصة في عهد الشاه عباس الثاني، إلي أن نجح السلطان مراد الرابع في استرداد العراق عام ١٦٣٨، ثم عاد نادر شاه لحصار بغداد عام ١٧٣٢ لولا استبسال أهالي بغداد بقيادة الوالي أحمد باشا، أي أن العراق لم يخلص للحكم العثماني تماما إلا في منتصف القرن الثامن عشر تقريبا.

اقرأ أيضا: الوعي العربي في المشرق

الخليج

اتخذ العثمانيون من البصرة_بعد أن خضعت للحكم العثماني المباشر عام ١٥٤٦_ قاعدة للتقدم في الخليج، والسيطرة علي أقطاره وأقاليمه، وكانو في ذلك يواجهون الزحف الأوربي والإمبراطورية الفارسية.

وفي البداية لم يستطع العثمانيون تثبيت أقدامهم لضعف الأسطول وبعده عن مراكز تموينه، هذا إلي جانب المقاومة الأجنبية أوربية أو فارسية.

ومن الثابت أن أمراء الخليج العربي بشكل عام كانوا يكنون عطفا كبيرا نحو السلطان العثماني بسبب الرابطة الدينية، إلي جانب ارتباط مصالحهم السياسية والاقتصادية بالعراق، ولذلك نجد أن شيوخ الكويت عرضوا في عام ١٧١٨ تقريبا الولاء للوالي العثماني في البصرة، ولذلك قررت الدولة العثمانية وضعها تحت السيادة الإسمية دون أن تتدخل في شئونها المحلية، وكذلك كان الحال في الحساء حيث سارع أمراؤها من بني خالد إلي تقديم العون للبصرة عام ١٧٧٥، عندما تعرضت للحصار من جانب الفرس، كما اشترك إمام عمان في ذلك أيضا إذ أرسل أسطوله ليشترك في الدفاع عن البصرة، وكافأته الدولة العثمانية علي ذلك.

ورغم أن منطقة الخليج حافظت علي ولائها للعثمانين، إلا أن هؤلاء لم يستطيعوا ملء الفراغ الذي كانت تشكو منه المنطقة، ولم يستطع النفوذ العثماني أن يحافظ علي وجوده، وكانت السادة في الأقطار التي إمتد إليها المد العثماني إسمية، ومع ذلك ظلت علاقات الكويت طيبة مع العثمانين، فمثلا عندما إشتد ضغط الإنجليز وطلبوا من شيخ الكويت رفع العلم البريطاني وقطع الصلات مع العثمانيين، لجأ جابر الصباح إلي الإعتراف بالسيادة العثمانية ورفع العلم العثماني علي قصره، وصار يدفع أموالا سنوية تقدر بأربيعين كيسا من الأرز وأربعمائة سباطة من التمر، وفي مقابل ذلك يتلقي خلعة سنوية إلي جانب التسهيلات لتجارته في شط العرب.

كما استجاب في عام ١٨٤٥ لطلب الدولة العثمانية في حماية ميناء البصرة، وقد حصل الشيخ جابر إلي جانب ما سبق علي إقطاعيات في البصرة (بساتين نخيل في الفاو)، ووصلت العلاقة إلي درجة جعلت الشيخ جابر يعلن في عام ١٨٤٧ أنه ينوي _في ظروف خاصة_ أن يضع نفسه تحت حماية الباب العالي.

وفي عهد خليفته الشيخ صباح (١٨٥٩) كانت الكويت متجهة بخطي سريعة نحو الدولة العثمانية، وقد أكد الشيخ للمقيم البريطاني أن حكام الكويت كانو يدفعون الأموال دائما للدولة العثمانية.

ومع ذلك ظلت السيادة العثمانية إسمية سواء علي الكويت أو علي الأحساء والزبير، ولكن النفوذ العثماني في هذه الفترة لم يستطع أن ينفذ إلي القسم الجنوبي من الخليج، مما أتاح الفرصة لبريطانيا، ويتضح ذلك عندما سعي العثمانيون لإدخال البحرين في دائرة نفوسهم، وأرسلت سلطات البصرة وفدا عثمانيا يرافقه بعض شيوخ البصرة وبغداد في عام ١٨٥٨ لتقديم عروض كثيرة إلي شيوخ البحرين، الذين أظهروا استعدادا كبيرا لتقبل التبعية العثمانية، ونجح الوفد في إعلان تبعية البحرين للدولة العثمانية وإبقاء ممثل لها في الإمارة، ووافق شيخها علي رفع العلم العثماني، ولكن بريطانيا أرغمت البعثة العثمانية وممثلها في البحرين علي الإنسحاب دون تنفيذ شئ من الإتفاق، بعد أن احتجت بريطانيا لدي حكومة الأستانة التي تراجعت عن موقفها وأمرت الوفد بالإنسحاب.

خضوع المغرب العربي (بدون مراكش) للحكم العثماني

يرتبط خضوع المغرب العربي للحكم العثماني بالظروف التي كانت تحيط في ذلك الوقت بالمسلمين في بلاد الأندلس، فقد ضعف المسلمون في الأندلس، وفي الوقت نفسه كانت أسبانيا في مقدمة الدول الأوربية التي تم توحيدها، واستكملت أسبانيا وحدتها في عام ١٤٩٣ عندما سقطت غرناطة _آخر معاقل المسلمين في أسبانيا_ في أيدي الملوك الكاثوليك (فرديناند وإيزابيلا)، وبذالك سقطت المدن الإسلامية في أسبانيا وأصبحت تحت حكم نصراني، وصار المسلمون فيها يتعرضون لإجراءات الأسبان التعسفية للضغط عليهم لكي ينتصروا أو يرحلوا أو يترضوا للإستئصال بالإعدام، وفي أثناء حركة الإسترداد المسيحية قام المسلمون الخاضعون لحكم الأسبان (وكانوا يسمون الموريسكيين) بثورات عديدة.

ولكن الأسبان أخمدوها بقسوة ووحشية، وقد تطلع الموريسكيون إلي ملوك المسلمين، وخصوصا سلاطين الدولة العثمانية، التي كانت لها هيبة عظيمة، بسبب تقدم قواتها في جنوب شرق أوربا ضد إمبراطورية النمسا، ولذالك فقد استنجد أهالي غرناطة _قبل سقوطها_ بالسلطان محمد الفاتح، وتجدد الإستنجاد بعد سقوطها بالسلطان بايزيد، وأرسل العثمانيون فعلا أسطولا بقيادة كمال ريس لمهاجمة سواحل صقلية، التي كانت تابعة لأسبانيا في ذالك الوقت، ثم تحول الأسطول العثماني إلي مهاجمة السواحل الأسبانية ذاتها، وكان الهدف من هذه الحملات شغل حتي يخف ضغطهم علي معاقل المسلمين في أسبانيا، وإرغام الأسبان علي عدم التمادي في اضطهاد المسلمين .

وبعد سقوط غرناطة في يد الأسبان، وجه الملوك الكاثوليك جهودهم الحربية إلي أمطار الشمال الإفريقي (المغرب العربي )، الذي كان مسلمو أسبانيا ينسحبون إليها فرارا من الإضطهاد، كما كان الأسبان بعد أن تمت وحدة دولتهم يريدون التوسع، وكانت أقرب منطقة يمكنهم التوسع فيها هي الشمال الإفريقي المواجه لأسبانيا، وكانوا يهددون إلي أكثر من هدف :

الإنتقام لإيواء المسلمين الهاربين، والقضاء علي الإسلام في هذه الأصقاع إنتقاما من المسلمين الذين كانوا يحتلون بلادهم في يوم من الأيام، ودعم النفوذ الأسباني في البحر المتوسط، ومحاولة هدم الكيان الإقتصدي العربي بإنتزاع التجارة الشرقية المربحة من أيدي العرب والمسلمين، ولذالك شهدت هذه الفترة حربا بحرية طاحنة بين الأسبان والمسلمين في شمال إفريقيا.

وإذا كان البعض يصف هذه المعارك بالقرصنة فإنها لم تكن كذالك إلا من جانب الأسبان، أما من جانب المغاربة فقد كانت جهادا بحريا من أجل الإسلام، وكفاحا ضد إستعمار صليبي دعا إليه المتعصبون الأسبان، الذين كانو يريدون نشر المسيحية في شمال أفريقيا، وتكوين إمبراطورية كاثوليكية في تلك الأصقاع، وقد استطاع جيش أسباني بمساعدة أسطول من البحر احتلال مدينة أوران(وهران) وغيرها من المراكز المبعثرة علي الساحل الشمالي لأفريقيا، وعندما تولي الإمبراطور شارل الخامس ملك أسبانيا عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة عام ١٥١٩ صار يعتبر نفسه بطل المسيحية وحاميها، ولم يقنع بهذه المراكز الساحلية بل أراد أن يتوسع في تلك المناطق .

وقد إلتفت عدد من المتطوعين المسلمين، الذين أخرجوا من أسبانيا، حول أخوين من المغامرين هما عروج وخيرالدين برباروسا لمقاومة الهجمات الأسبانية علي الشمال الإفريقي، إلا أنه لم يكن في إستطاعة خير الدين برباروسا وحده مواجهة القوة الأسبانية حيث كان الجيش الأسباني في ذالك الوقت يعتبر من أقوي الجيوش في أوربا، ولذالك طلب برباروسا مساعدة السلطان العثماني سليم الأول، الذي منحه لقب بايلر بك أي كبير بكوات أفريقيا،وأرسل إليه تعزيزات من الجنود الإنكشارية، بل ونصبه السلطان العثماني علي رأس أسطوله في غرب البحر المتوسط، الذي نقل إليه العثمانيون نشاطهم في تلك الفترة.

واستمر هذا النشاط الإسلامي في عهد السلطان سليمان المشرع حتي غدا برباروسا الحارس الأمامي للدولة العثمانية وللعالم الإسلامي في الحوض الغربي للبحر المتوسط، واستطاع برباروسا القضاء علي الحامية الأسبانية في بنون عام ١٥٢٩، وأنزل بالتجارة الأسبانية خسائر فادحة، كما استطاع أن ينقذ نحو سبعين ألفا من المسلمين من براون محاكم التفتيش ويعود بهم إلي الجزائر ، حتي ليقال أن خير الدين في أثناء مهاجمته للسواحل الأسبانية وتوجيه الضربات لها كجزء من نشاطه، كان يترك بحارته الجزائريين علي السواحل الأسبانية، لكي يحل مكانهم في سفنه عددا من اللاجئين.

وبعد أن يوصلهم إلي بر الأمان في شمال أفريقيا يعود إلي السواحل الأسبانية لنقل أعداد جديدة، وهكذا عدة مرات، وأخذ برباروسا يوسع دائرة نفوذه فاحتل بيزرتة ثم تونس التي كان ملكها الوطني مولاي الحسن تحت سيطرة الأسبان، فتكونت حملة مشتركة استطاعت الإستيلاء عليها عام ٩٤٣ه/١٥٣٥م، بعد أن دفعت الثمن غاليا، حيث كانت الدولة العثمانية مشغولة وقتئذ في الجبهة الشرقية (فارس والعراق) ، وقد أثار سقوط تونس مشاعر المسيحيين.

وتابع الأسطول العثماني بقيادة برباروسا نشاطه بمهاجمة سواحل أسبانيا وجزر البحر المتوسط، بل وسواحل شبه الجزيرة الإيطالية، فاستولي علي جزر بحر إيجة من البندقية، كما قام خيرالدين بالهجوم علي جزر البليار عبر مضيق جبل طارق، والإنقضاض علي السفن الأسبانية والبرتغالية القادمة من العالم الجديد والمشكلة بخيراته، وكان خيرالدين يقوم بهذه المهام بصفته قبودانا للأسطول للأسطول العثماني بناء علي أمر السلطان سليمان، الذي طلب من خيرالدين أن يعين عنه نائبا في البايلربكية حتي يتفرغ هو لمقاومة القوي المسيحية في البحر المتوسط.

وقد خرج حسن أغا الطوشي (نائب خيرالدين في البايلربكية) بحملة إلي جبل طارق، وأنزل قوة إلي البر وتوغل في الساحل الأسباني الجنوبي، وقفل عائدا إلي الجزائر محملا بالغنائم والأسري الأسبان، وتوالت الغزوات علي السواحل الإيطالية والأسبانية، وبعد وفاة حسن أغا عام ٩٥١ه/١٥٤٤م عين السلطان حسن بن خيرالدين نائبا، واستمرت الحملات حتي لقد قام أحد قواده وهو بويحيي الريس (الهراس) بتخريب الساحل الأسباني الجنوبي حتي رأس سان فنسان ، حتي لقب بسيد مضيق جبل طارق، وبذالك أصبح العثمانيون مسيطرين علي البحر المتوسط بأكمله.

وتوفي برباروسا عام ١٥٤٦، إلا أن وفاته لم تضع حدا لنشاط العثمانين في البحر المتوسط، فقد خلفه دراغوت الذي واصل حملاته ضد سواحل أسبانيا، وفي عام ١٥٥١ استولي علي طرابلس وطرد منها فرسان القديس يوحنا، وتوفي دراغوت عام ١٥٦٥، ويقال أن خليفته علوج علي أي السيف علي قد اتفق سرا مع المسلمين الثائرين في أسبانيا عام ٩٧٦ه/١٥٦٩م علي القيام بثورة في الوقت الذي تصل فيه القوات الإسلامية المحولة بحرا إلي الساحل الأسباني في مناطق معينة ، وفعلا أنزلت السفن الإسلامية الأسلحة والعتاد والمتطوعين علي الساحل الأسباني، ولكن المشروع أخفق في النهاية بسبب الزوابع والعواصف واكتشاف الأسبان للخطة.

وقد استطاع الأوربيون حشد أسطول مشترك هزم الأسطول العثماني في معركة لبانتو عام ١٥٧١، إلا أن هذه المعركة لم تضع حدا للتفوق البحري العثماني، فقد عكف القبطان باشا علوج علي علي بناء أسطول جديد بحيث استطاع بعد عام واحد أن يعاود نشاطه في البحر المتوسط، كما أنه في عام ١٥٧٤ قام القبطان باشا ومعه سنان باشا بحملة انتزعت تونس من أيدي الأسبان، وبذالك خلص شمال أفريقيا الإسلامي من براثن الإستعمار الصليبي .

مراكش (المغرب الأقصي)

كانت مراكش القطر الوحيد في المغرب العربي الذي لم يخضع للحكم العثماني مثل بقية أجزاء المغرب العربي، وكانت مراكش في القرن السادس عشر قد أصبحت تحت حكم السعديين، وهي أسرة شريفة تنحدر من نسل محمد النفس الزكية من أبناء الحسين بن علي، وبعد أن أصبح الشمال الأفريقي تحت حكم العثمانيين كان من المتوقع أن يحدث تضامن بين العثمانين والسعديين في المغرب لمواجهة العدو المشترك، وهو الإستعمار الأسباني النصراني، ولكن السلطان سليمان المشرع كان يريد أن يكون هذا التضامن علي أساس دخول الدولة السعدية في التبعية للدولة العثمانية، إلا أن محمد المهدي سلطان مراكش رفض هذه الفكرة، وكانت هناك مشكلة ساعدت علي قيام النزاع بين السعديين والعثمانين وهي مشكلة تلمسان، التي تقع في غرب الجزائر قرب الحدود المراكشية.

ويعتبر أحمد المنصور من أعظم سلاطين الأسرة السعدية في مراكش، حيث قام بتنظيم الإدارة الداخلية ، ومد نفوذ مراكش جنوبا إلي حوض السنغال، وتنظيم الجهاز الإداري للحكومة وهو ما يسمي بنظام المخزن، وبعد وفاة المنصور انتشرت الفوضي في مراكش، وأخذت الطرق الصوفية تسيطر علي بعض أقاليمها حتي استطاع الرشيد في منتصف القرن السابع عشر تقريبا أن يستولي علي الحكم، وأن يؤسس أسرة جديدة هي الأسرة العلوية ، التي ما زالت تحكم مراكش حتي الأن .

وكانت الأسرة العلوية قد نشأت في الجنوب الذي يعتبر موطن الأشراف الذي خرجت منه الأسرة السعدية أيضا، وبعد وفاة الرشيد في عام ١٦٧٢ انتقل الحكم لأخية مولاي إسماعيل الذي يعتبر من أعظم سلاطين تلك الأسرة وأطولهم حكما، إذ استمر حكمه أكثر من نصف قرن (١٦٧٢-١٧٢٧) وبعد وفاة مولاي إسماعيل نشبت حروب أهلية بين أفراد الأسرة الحاكمة في مراكش إلي أن استطاع محمد بن عبدالله تولي العرش (١٧٥٧-١٧٩٢) ، وكان من سياسته توثيق الروابط مع الدولة العثمانية والمشرق الإسلامي بصفة عامة، وقد تبادل المراسلات والهدايا مع الباب العالي، وتصاهر مع الشريف سرور حاكم مكة، كما تدعمت العلاقات بين مراكش وبقية شمال أفريقيا حيث كان هذا هو الطريق الذي تسلكه قوافل الحجيج إلي مكة، وكان الحجيج المراكشي معجبا بالمبادئ السلفية ، خصوصا وأن السلفيين كانوا يهاجمون الطرق الصوفية وخرافاتها ، وهذا ما اجتذب العلويين في مراكش إلي الحركة السلفية .

نتائج خضوع العرب للحكم العثماني

لقد كان لخضوع الأقطار العربية في قارتي أسيا وأفريقيا _بإستثناء المغرب الأقصي (مراكش)_ للحكم العثماني نتائج بالغة وعميقة الأثر ،سواء علي الأقطار العربية، أو علي الدولة العثمانية ذاتها:

(١) إنقاذ أقطار العالم العربي من الخطر الإستعماري الصليبي. الأسباني(في المغرب) والبرتغالي (في المشرق) ، ولقد سبق أن ذكرنا أنه بفضل معونة العثمانين لأقطار شمال أفريقيا العربية أمن تخليصها من الإستعمار الأسباني ، الذي كان قد استولي علي بعض المناطق فيها مثل طرابلس وتونس والجزائر ووهران، ولذالك فإن أهل المغرب العربي كانوا أكثر تقديرا للحكم العثماني من أهل المشرق ، فهم ينكرون وصف الخلافة العثمانية بصفة المستعمر المحتل التركي، وإنما كانو يرون في الخلافة العثمانية جمعا لشمل هذه الأقطار في مواجهة أعداء الإسلام ، وأن العثمانين عندما جاءوا إلي بلادهم بناءا علي طلبهم واستدعائهم واستنجادهم، وأن الجيش العثماني الذي عسكر في هذه المناطق كان يشارك في حماية الثغور الإسلامية، وأن العثمانيين كانوا نعم السند ضد الغزو الإستعماري.

ولا شك في أن لأهل المغرب عذرهم في هذه النظرة ذالك أن العثمانيين استخدموا القوة وخاضوا المعارك في سبيل السيطرة علي أقطار المشرق العربي، وهذا الإختلاف في أسباب وظروف التواجد العثماني يرجع إلي اختلاف ظروف كل من المشرق والمغرب في ذالك الوقت.

حقا لقد انبري العثمانيون للتصدي للزحف البرتغالي في البحار الشرقية، ولكنهم لم يحققوا في تلك المناطق النجاح الذي حققوه في المغرب العربي ، كما أن أهل المشرق لم يشعرو بفضل العثمانيين في مقاتلة البرتغاليين مثلما شعر أهل المغرب ، لأن معارك العثمانيين ضد البرتغاليين كانت بعيدة في البحار والمحيطات، بينما كانت المعارك ضد الأسبان علي أرض الشمال الأفريقي واشترك فيها المغاربة انفسهم، ومن هنا كان اختلاف نظرة المشارقة عن المغاربة نحو الحكم العثماني.

اِقْرَأْ أَيْضًا: 8 كتب يجب أن تقرأها خلال حياتك

وكان هناك عامل أخر لهذا الإختلاف ، ذالك أن أقطار المغرب العربي وقعت تحت سيطرة الإستعمار الأوربي النصراني منذ وقت مبكر من القرن التاسع عشر. فاحتلت فرنسا الجزائر عام ١٨٣٠ ثم تونس عام ١٨٨١ . واحتلت بريطانيا مصر عام ١٨٨٢ . واحتلت إيطاليا ليبيا عام ١٩١١ . واحتلت فرنسا مراكش عام ١٩١٢ . أي أن أقطار المغرب العربي وقعت قبل الحرب العالمية الأولى في براثن هذا الإستعمار الذي ذاق أهلها سوء العذاب. وحاول أن يطمس معالم شخصيتها العربية الإسلامية ، أما بالنسبة لأقطار المشرق العربي_بإستثناء مصر_ فإنها لم تخضع للإستعمار إلا عقب الحرب العالمية الأولي. بل أن بعض جهاته مثل معظم أنحاء شبه الجزيره العربية لم تخضع للإستعمار الأوربي بالمرة، وبالتالي لم تعاني من قسوته، ولا شك في أن خضوع المغرب العربي للإستعمار الأوربي منذ وقت مبكر جعل المغاربة يترحمون علي الوجود العثماني الذي كان وجودا إسلاميا .

وبالإضافة إلي ذالك ، كان هناك سبب أخر لاختلاف نظرة المشارقة عن المغاربة نحو الوجود العثماني في بلادهم، ذالك أن المشارقة دون المغاربة عانوا في سنوات الحكم العثماني الأخيرة والسابقة علي الحرب العالمية الأولى وفي عهد حكومة الاتحاديين من فترة قاسية. اتجه فيها ساسة الدولة العثمانية نحو سياسة التتريك، ومحاولة طمس الشخصية العربية، وإعلاء شأن الشخصية التركية، ووصل بهم الحال إلي حد ترجمة القرآن الكريم إلي اللغة التركية. وسار الترك علي سياسة عنصرية طابعها التعصب لكل ما هو تركي، وهو أمر يتعارض مع الأخوة الإسلامية. ولذالك فإنه في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني. وهي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى مباشرة، كان المغاربة يعانون من الدول الأوربية الإستعمارية ، بينما كان المشارقة يعانون من الحكم العثماني .

(٢) لقد فرض العثمانيون العزلة علي البلاد العربية. ورغم عيوب العزلة في ذاتها إلا أنها دفعت عن الشرق العربي غائلة الإستعمار العسكري الأوربي حتي أواخر القرن الثامن عشر, مما أضفي عليه نوعا من الهدوء , كما استفادت البلاد العربية _بإستثناء الجزائر_من السياسة التي اتبعتها الدول الأوربية حتي السبعينات من القرن التاسع عشر , وهي سياسة المحافظة علي كيان الدولة العثمانية وممتلكاتها, ليس حبا في الدولة العثمانية، ولكن لتفادي الخلاف بين الدول الأوربية ذاتها علي تقسيم الممتلكات العثمانية.

(٣)كان الحكم العثماني للبلاد العربية حكما غير مباشر. ولذالك كان قليل التأثير في المجتمعات العربية ، فقد احتفظ العثمانيون بالبناء الإجتماعي والاقتصادي الذي كان سائدا في المنطقة قبا دخولها في حوزتهم، ولم يفرضوا عليها القوانين والأنظمة العثمانية الصرفة، مكتفين بفرض سيطرتهم السياسية والعسكرية، وقد ساعد هذا الوضع علي احتفاظ العرب في ظل الحكم العثماني بمقوماتهم الأساسية من لغة وثقافة وعادات وتقاليد، وكانت هذه المقومات هي الأساس الركيين الذي قامت عليه الحركة العربية في المشرق ، خاصة وأن انعزال الحكام الأتراك عن المحرومين العرب جعل الحكم العثماني قليل التأثير في حياة الشرق العربي.

وبذلك لم يتمكن العثمانيون من تتريك الشرق، ولم يحاولو ذلك إلا في سنوات حكمهم الأخيرة(الإتحاديين) ، بل وحدث العكس، فقد نجحت مجتمعات المشرق العربي بتراثها الفكري في التأثير علي الترك خاصة وقد كان للعرب تراث حضاري عظيم ، بينما لم يكن للترك رصيد مماثل حتب يغيروا المقومات الأساسية للشعب العربي، ولذلك كان الحكم العثماني ضئيل الأثر في المجتمعات العربية وتطويرها بما يتناسب والقرون الأربعة التي خضعت طوالها الشعوب العربية للحكم العثماني.

بل لقد لعب العرب المسلمون دورا هاما في النظام القضائي للإمبراطورية العثمانية، وهو نظام قائم علي الشريعة الإسلامية، كما تخرج من الأزهر في القاهرة ومن المدارس الدينية السنية في المدن العربية كثير من العلماء والقضاة والمفتيين الذين تولوا القضاء والإفتاء في مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية .

(٤)وكان من نتائج الحكم العثماني أيضا قيام الترابط بين الدول العربية. ذلك أن إستيلاء العثمانيين علي البلاد العربية خلق في العالم العربي وحدة سياسية، فقد جمع الترك العرب في دولة واحدة أكسبت المنطقة نوعا من الاستقرار النسبي كان يفتقده منذ القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، وفي ظل الحكم العثماني لم يعد بين البلاد العربية حدود سياسية فاصلة ولا حواجز جمركية تقف في وجه انتقال العرب من قطر لأخر وممارسة ألوان من النشاط دون قيود .

(٥)وكان من أهم نتائج خضوع العالم العربي للحكم العثماني أن اكتسبت الدولة العثمانية صبغة عربية لم تكن لها من قبل، وأصبح العرب يكونون نسبة كبيرة من سكان الإمبراطورية العثمانية، كما تدعم مركزها كدولة إسلامية بعد ضم الأماكن المقدسة الإسلامية والتواصل العربية القديمة مثل دمشق وبغداد والقاهرة ومكة والمدينة، وتدعم هذا الموقف أيضا إنتقال الخلافة الإسلامية إلي العثمانين عقب خضوع مصر للدولة العثمانية، ولو أن السلاطين العثمانيين لم يهتموا في البداية بإبراز صفة الخلافة، لأن الخلافة في ذلك الوقت كانت قد فقدت مكانتها ولم يعد الخليفة أكثر من رمز.

بينما كان العثمانيون في ذلك الوقت يبنون مجدهم علي أساس القوة العسكرية وحدها ، فلم يكونوا بحاجة إلي قوة روحية ، ولم تظهر حاجة الدولة العثمانية إلي هذه القوة الروحية المتمثلة في الخلافة إلا منذ القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر علي وجه الخصوص ، عندما ضعفت الدولة العثمانية، وبرزت أطماع الدول الأوربية فيها، فحاول السلاطين العثمانيون وبخاصة السلطان عبد الحميد الثاني _ استخدام صفة الخلافة لجمع كلمة المسلمين وراء السلطان الخليفة لمواجهة الأطماع الأوربية، إلي جانب مقاومة الحركات القومية والإنفصالية والدستورية التي بدأت تظهر في الممتلكات العثمانية في ذلك الوقت ، ومنها الحركة العربية .

(٦) إلا أنه من ناحية أخري كان للحكم العثماني في البلاد العربية آثار سيئة. فقد صارت البلاد مسرحا للفوضي والإضطراب نتيجة تنازع الهيئات التي كانت تقتسم الحكم فيها ، وسارت الدولة العثمانية علي سياستها التقليدية في تغيير الباشوات خوفا من جنوحهم نحو الإستقلال ، كما أن البلاد شملها التأخير، فقد كانت فكرة الحكم عند العثمانيين بسيطة ، واقتصرت وظيفة الدولة في نظرهم علي الدفاع عن البلاد وحفظ الأمن وجمع الضرائب والفصل في الخصومات، أما ما عدا ذلك من خدمات فقد أهملت ، إذ لم تعتبرها الدولة من بين مسئوليتها وتركتها للأفراد والجماعات.

ولذلك ساءت أحوال الشعوب العربية اقتصاديا وثقافيا وإجتماعيا، كما أن العزلة التي فرضها العثمانييون علي العالم العربي، والتي كانت قد بدأت بسبب تحول التجارة الشرقية من الطرق الإمارة بأقطار المشرق العربي إلي طريق رأس الرجاء الصالح، وكان العثمانيون يعتقدون أن هذه العزلة سوف تؤدي إلي إبقاء المشرق العربي تحت حكمهم، ولذلك انقطعت الصلات السياسيه والاقتصادية والحضارية بين العالم والمشرق العربي الذي أغلقت أبوابه في وجه الحضارة الغربية التي كانت تسير مسرعة في طريق التقدم منذ القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، ولا جدوي من إنكار أن المشرق العربي أصيب بالجمود والتأخر في ظل الحكم العثماني، ولم يستطع أن يواكب ركب الحضارة والتقدم الذي أخذت تسير فيه أوربا.

(٧) وبالإضافة إلي ذلك ، فقد تحملت الأقطار العربية أعباء مالية . فبالإضافة إلي معتادات الأستانة من الهدايا للسلطان وزوجاتة وأولاده وكبار رجال الحكومة العثمانية. كانت هناك نفقات القوات العثمانية المرابطة في كل ولاية للدفاع عنها ولحفظ الأمن فيها ومنع الثورات، إلي جانب تجهيز فرق حربية وإرسالها إلي ميادين القتال في أسيا وأوروبا للاشتراك مع الجيوش العثمانية. كما كانت خزائن الولايات العثمانية تتحمل نفقات الباشا وحاشيته التي كان لا يقل عددها عن ألف شخص، وكان الباشا لا يكتفي بالمرتب السنوي الثابت الذي يسمي سليانة، بل كانت له إيرادات أخري من نسب معينة من الضرائب علي بعض أنواع السلع وعند نقل الإلتزام. كما كانت خزائن الولايات العربية تئن من النفقات الباهظة في استضافة رسل السلطان إلي الباشوات يحملون الرسائل والتبليغات والفرمانات .

وعلي الرغم من حسنات الحكم العثماني، فإنه بسبب المساوئ كانت هناك انتفاضات عليه في بعض الأقطار العربية. مثل حركة فخرالدين المعني الثاني في لبنان في القرن السابع عشر، وحركة علي بك الكبير في مصر، وظاهر العمر في فلسطين في القرن الثامن عشر، إلا أن هذه الحركات لم تكن سوي حركات فردية أثارتها دوافع شخصية بحتة، وليست تعبيرا قوميا منبثقا عن آلام الشعوب وآمالها.

ولكن المشرق العربي شهد في القرن التاسع عشر حركتين كانتا أكثر أهمية وأعمق أثرا من الحركات السابقة، أولهما الحركة السلفية في شبه الجزيرة العربية، والأخري محاولات محمد علي تكوين دولة تضم أقطار المشرق العربي .

أما الحركة السلفية التي ظهرت في نجد منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر فهي حركة دينية رأت أنه لا منجاة للعالم الإسلامي من أخطار الأطماع الإستعمارية المحدقة به إلا بالعودة إلي بساطة الإسلام الأولي وتخليصه من الشوائب. والبعد عما هو أوربي والتمسك بالقرآن نصا وروحا وعدم التورط في حركة الاستغراب_أي الأخذ بالحضارة الغربية_ بعكس محمد علي وبعض السلاطين العثمانيين. مثل سليم الثالث ومحمود الثاني، الذين توجهوا وجهة غربية، أي أن الهدف واحد عند كلا الفريقين مع إختلاف الوسيلة.

وهذا الإختلاف يرجع إلي أن نجد _مهد الحركة السلفية _ تقع في قلب الجزيرة العربية _مهد الدعوة الإسلامية الأولي_ بينما تقع مصر علي البحر المتوسط أي في طريق المؤثرات الأجنبية. إلا أنه يلاحظ أن الحركة السلفية لم تقم ضد الأتراك بإعتبارهم أجانب يختلفون عن العرب في الجنس ويحتلون البلاد العربية. ولكن بإعتبارهم مسلمين خرجوا علي مبادئ الدين الإسلامي الحقة. وبالتالي لا يصح أن يستمر السلطان في تولي إمامة المسلمين. وكان السلفيون يقفون موقف العداء من العرب الشيعة في العراق والسنيين في الحجاز مثلما يقفون موقف العداء من الأتراك العثمانيين .

وترجع أهمية الحركة السلفية إلي أن قيام محمد علي والي مصر بإخمادها أضفي عليه شهرة في العالم الإسلامي. كما كانت فرصة أتاحت له الإتصال بجزء من العالم العربي غير مصر. مما أوجد لديه فكرة إنشاء دولة تنتظم فيها الأقاليم العربية الخاضعة للحكم العثماني، ولو أنه لم يتخد خطوات إيجابية لتحقيق هذه الأحلام إلا بعد دخوله الشام .

وقد إختلف الآراء في تفسير دافع محمد علي لتكوين دولة عربية، فيذهب البعض إلي أنه كان مدفوعا بدافع عربي، ولكن هذا القول لا يمكن الأخذ به لأن محمد علي لم يكن يؤمن بالعروبة. ولم ينقلب علي السلطان العثماني رغبة في تخليص العرب من حكم الترك. ويري البعض الأخر أن محمد علي كان يطمع في الخلافة ذاتها ، ويرغب في الحلول محل السلطان العثماني. وهناك رأي أخر بأن محمد علي بعد أن نجح في مصر وأنشأ فيها دولة جديدة قوية، أراد أن يجدد الدولة العثمانية بالسيطرة علي أزمة الحكم فيها إذا استطاع إلي ذلك سبيلا.

وذلك بإدخال النظم الغربية مثلما فعل بمصر، ومن ثم يري هذا الرأي أن محمد علي كان لا يريد تحطيم الدولة العثمانية ولكن أراد أن يجددها. فإن لم يستطع فلا أقل من أن ينتزع منها أقاليمها العربية المجاورة لمصر، والتي تشترك معها في اللغه والجنس، وهو عندما اختار الأقطار العربية لم يكن بدافع الإيمان بالعروبة. ولكن لكي يخلق بين أجزاء دولته نوعا من التجانس يكون أساسا متينا لها فتصير لها مقومات الدولة. وعلي أية حال فإن محاولة محمد علي هذه لم يقدر لها النجاح. ويرجع فشلها إلي تردده بين الولاء للدولة العثمانية أو الإنتفاض عليها، فهو لم يتخذ الإتجاه العثماني الصرف، ولم يتخذ الإتجاه العربي الصرف.

إلا أن أهم الأسباب في فشل محمد علي في إقامة دولة تضم الأقطار العربية التي فتحها كان موقف الدول الأوربية عامة وبريطانيا خاصة. ذلك أن بريطانيا كانت مطمئنة علي الهند والطريق إليها في ظل الوضع القائم في الشرق. وكان الساسة البريطانيون يرون أن الدولة العثمانية بضعفها أفضل دولة يمكن أن يطمئنوا لترك الطريق إلي الهند تحت سيطرتها.

أما إذا وقعت الأقطار التي يمر بها الطريق إلى الهند تحت حكم محمد علي القوي. فقد كان هذا يثير قلق بريطانيا, وزاد من مخاوف بريطانيا أن أحلام محمد علي كانت تحظي بعطف فرنسا. ويضاف إلي أسباب فشل محمد علي أيضا أنه لم يجد سندا من الشعب العربي. ذلك أن فكرة تكوين دولة عربية مستقلة عن الدولة العثمانية كانت فكرة سابقة لأوانها في ذلك الوقت. فإن إسلام الدولة العثمانية وخلافة السلطان العثماني جعلا المسلمين يرتبطون بها برابطة العقيدة. وكانت العاطفة الوطنية ممتزجة بالعاطفة الدينية, وكان الرباط الديني لا يزال يشد جماهير العرب إلي الخلافة الإسلامية .

sozana

كاتب لدى موقع المسافر نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

عفوا قم بتعطيل مانع الاعلانات لتتمكن من استخدام الموقع