التنظيمات الإدارية والإنجازات العمرانية في عهد أبي جعفر المنصور ( ١٣٦- ١٥٨هـ)
عهد أبي جعفر المنصور (١٣٦-١٥٨ هـ)

في عهد أبي جعفر المنصور، شهدنا تطورات ملحوظة في التنظيمات الإدارية والتقدم العمراني. يسلط هذا المقال الضوء على جانبين رئيسيين: التنظيمات الإدارية التي تم تنفيذها خلال حكمه والإنجازات العمرانية الملموسة التي تحققت تحت حكمه. من خلال دراسة الإصلاحات الإدارية، نكتسب نظرة شاملة حول الأنظمة التي وضعت لحكم الأراضي المتنامية بكفاءة. بالإضافة إلى ذلك، نتعمق في التحولات الحضرية الملحوظة، بما في ذلك تأسيس بغداد وتوزيع الأراضي والأحياء وبناء منطقة الرصافة. يوفر استكشاف هذه المعلمات التاريخية فهمًا أعمق للإرث المؤثر الذي تركه أبي جعفر المنصور في تشكيل المشهد الإداري والعمراني في ذلك الوقت.
١- التنظيمات الإدارية .
كان أبو جعفر المنصور يحرص علي أن يشرف بنفسه علي أمور الدولة وسياستها الداخلية والخارجية ، ولم يكن لوزرائه سلطة فعلية في عهده ، ( لإستبداده برأيه وكفاءته) ، حتي أنه استغني عن الوزير في أواخر عهده كما تشير إلي ذلك رواية المسعودي التي تقول ان المنصور بعد أن استوزر أبان بن عطية الباهلي وابو أيوب الموريان الخزري ( استكتب أبان بن صدقة إلي أن مات) أي أن المنصور اكتفي أن يكون له كاتب فقط يقوم بتحرير الرسائل الرسمية في السياسة الداخلية والخارجية .
كما اول المنصور عناية خاصة في إختيار عماله وكان شديد المحاسبة لهم ، حتي ثقل عليهم ( تفقده الأعمال ومراعاته لها) وقدم اهل بيته في المناصب ، فولي إسماعيل بن علي بلاد فارس ، وسليمان بن علي علي البصرة، وعيسى بن موسى علي الكوفة ، وصالح بن علي علي قنسرين والعواصم ، والعباس بن محمد علي الجزيرة ، وعبدالله بن صالح علي حمص ، والفضل بن صالح علي دمشق ، ومحمد بن إبراهيم علي الأردن ، وعبد الوهاب ابن إبراهيم علي فلسطين، والسر بن عبد الله بن تمام بن العباس علي مكة ، وجعفر ابن سليمان علي المدينة، ويحيي بن محمد علي الموصل ثم صرفه وول إبنه جعفرا ، وصير معه هشام بن عمرو .
أما اليمن فقد كان عليها معن بن زائدة، فقدم علي المنصور سنة ١٥١هـ فعهد إليه بقتال الخوارج في خراسان وجعل المنصور زائدة بن معن علي اليمن، فأم بها مدة حتي قتل أبوه في خراسان ، فولي المنصور علي اليمن الحجاج بن منصور، ثم عزله وعين يزيد بن منصور .
أما عن شئون القضاء فقد فصل المنصور القضاء عن سلطة الولاة ( فكان اول من ولي القضاء علي الأمصار من قبله ) ، وكان الولاة قبل ذلك هم الذين يعينون القضاة في ولايتهم .
واولي المنصور اهتماما خاصا بالبريد لما له من أهمية في سياسة الدولة وضبط أمورها الداخلية ، فعمل علي رفع كفائته ليسهل عليه الإطلاع علي الأحوال في الأمصار ، فكان يأمر عمال البريد بأن يكتبوا إليه يوميا ( بسعر القمح والحبوب والأدم وبسعر كل مأكول ليتلاشي المجاعات ، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد من بيت المال من المال ، وكل حدث ) .
وعن سياسة المنصور نحو الجيش نجده يحرص علي أن يحفظ التوازن بين الفرق العربية والخراسانية التي كانت يتألف منها الجيش العباسي آنذاك ، ( فاعتمد مبدأ تفريق الجيش إلي أحزاب حتي لا يجتمعوا عليه ، وقد قيل للمنصور إنك قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثا فتضربه بالحزب الآخر) .
كما أمر المنصور أيضا ببناء الرصافة لتكون معسكرا لجيش ولده المهدي بعد عودته من إيران ، فأصبح لديه في وقت واحد معسكران علي جانب دجلة ، فإن فسد عليه أهل جانب ضربهم بالجانب الآخر ، وأبدي إهتماما ملحوظا بمراقبة أحوال الجند والتأكد من كفاءتهم واستعدادهم الدائم للقتال ، فكان يستعرض جيوشه من حين لآخر ليتأكد من كفاءتهم وحسن تنظيمهم .
ففي سنة ١٥٧هـ عرض أبي جعفر المنصور جنده في السلاح والخيل في مجلس اتخذه علي شط دجلة دون قطربل ، وأمر أهل بيته وقرابته وصحابته يومئذ بلبس السلاح .
أما عن سياسة المنصور المالية فتتضح من خلال اهتمامه بإصلاح نظام الأرض في السواد ، وكان الخراج يؤخذ بالنقد وعلي مساحة الأرض زرعت أم لم تزرع ، فرأي أن تطور الظروف يستلزم إجراء الظروف يستلزم إجراء تعديل هذا النظام ( لأن السعر نقص فلم تفي الغلات بخراجها ) ، وكان إهمال الولاة الأمويين وضغطهم المال قد ادي إلي خراب السواد وتدهور الزراعة ، فأعتمد المنصور نظام المقاسمة الذي ينص علي أن يدفع الزراع جزءا معينا من محصولهم كضريبة ، ويبقي لهم ما يكفيهم .وقد ذكر البلاذري أن المنصور توفي قبل أن يتم هذا الإصلاح فقام به ولده المهدي من بعده .
وجعل المنصور جباة الضرائب تحت رقابة دقيقة لئلا يظلموا أن يستأثروا بأموال الدولة، ولجأ إلي مصادرة أموال العمال الذين تثبت خيانتهم ليسترجع منهم ما اختزنوه من أموال الدولة، كما فعل بخالد بن برمك بعد أن ولاه مقاطعة فارس حيث ألزمه بعد ذلك بدفع ثلاثة آلاف ألف درهم .
ولاية العهد .
حرص أبو جعفر المنصور جنده علي أن يحفظ الخلافة في بيته فجعل ولاية العهد لولده محمد المهدي ، مقدما إياه علي ابن أخيه عيسي بن موسى الذي كان أبو العباس قد جعله وليا للعهد بعد ابي جعفر المنصور، فلجأ الأخير إلي أساليب الترغيب والإرهاب مع عيسي وارغمه علي التنازل عن حقه بالخلافة إلي المهدي سنة ١٤٧هـ علي أن تكون له ولاية العهد من بعده .
٢- الإنجازات العمرانية .
تأسيس بغداد .
أقام المنصور في الكوفة بعد تولية الخلافة ، وبني له في طرف منها مدينة سماها الهاشمية اتخذها مركزا لدولته، إلا أنه لم يكن مطمئنا إلي أهل الكوفة ولا يثق في ولائهم للعباسيين ، مما دفعه إلي البحث عن موقع آخر يتخذه عاصمة للدولة ، فشرع في ارتياد مناطق العراق واستمع إلي الآراء والمعلومات التي تقدم بها بعض الشخصيات القريبة إليه وأخيرا وقع اختياره علي موقع بغداد بعد أن لاحظ وقوعها في وسط العراق ، وسهولة الإتصال بينها وبين أنحاء الدولة ، بالإضافة إلي ما تتمتع به من مزايا اقتصادية بسبب وقوعها علي طريق التجارة وخصوبة أرضها ووفرة مياهها ، فهي تقع علي الضفة الغربية لنهر دجلة ، كما يتصل بها نهر الفرات عن طريق قنوات متعددة .
وتتوفر في الموقع الجديد عدة مزايا عسكرية في مقدمتها بعده عن الدولة البيزنطية التي تناصب المسلمين العداء ثم حصانته الطبيعية بسبب وقوعه بين دجلة والفرات ، وقد قيل للمنصور حين اختار موقع بغداد : ( وانت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا علي جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسور وخربت القناطر لم يصل إليك عدوك ) ، كما قيل له أيضا : ( وانت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله ، وانت قريب من البر والبحر والجبل ) .
وعن محاسن موقع بغداد الإقتصادية روي بن الفقيه الهمداني أن المنصور حين استشار عدد من اهل تلك الناحية قيل له: ( وأن يا أمير المؤمنين علي الفرات ودجلة، تجيئك الميرة من المغرب في الفرات ومن الشام ومصر ، وسائر تلك البلدان وتحمل إليك طرائف الهند والصين والسند والبصرة وواسط ….وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها …وتجيئك الميرة من الروم وآمد وميافارقين وأرزن والثور الجزرية ، ومن الجزيرة والموصل وبلد وننصيبيين إلي مشارف الشام في دجلة ) .
وهكذا قرر المنصور إنشاء مدينته في ذلك الموقع بعد أن اقتنع بصلاحيته من جميع الوجوه ، وأحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والمساحة وتقسيم الأرض، وجلب الصناع والفعلة من الشام والموصل وواسط والبصرة والكوفة وبلاد الجبل غربي إيران ، واختار من ذو الفضل والمعرفة بالهندسة للإشراف علي العمل .
وحرص الخليفة علي أن يرسم مدينته قبل الشروع في بنائها، فأمر أن تخط طرقها بالرماد ، وأن يوضع علي تلك الخطوط كرات من القطن مبللة بالنفط وتشعل فيها النيران ، ثم نظر إليها والنار مشتعلة فيها فبانت له خططها وأقسامها .
وقد بنيت بغداد علي شكل دائري ليس بالمربع ولا بالمستطيل، وهو إتجاه جديد في فن بناء المدن الإسلامية، وقد استهدف المنصور من ذلك أن يكون مركزها علي مسافات متساوية من أجزاء الدائرة .
وقد ذكر ابن الفقيه الهمداني أن المنصور بني مدينة مدورة ( لأن المدورة لها معان ليست للمربعة، وذلك أن المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض ، والمدورة من حيث مساحتها كان أمرها إلي وسطها مستويا لا يزيد بعضه علي بعض، وبني لها أربعة أبواب فكان إذا جاءها الجائي من المشرق دخل من باب خراسان، وإذا جاؤها من الحجاز دخل من باب الكوفة ، وإذا جاء من المغرب دخل من باب الشام ، وإذا جاء من فارس والاحواز والبصرة وواسط واليمامة والبحرين وعمان دخل من باب البصرة ) .
وأحاط المنصور المدينة بخندق وسورين ضخمين بينهما فسحة من الأرض، وجعل لها أربعة أبواب متقابلة، وعند كل باب دهليز عليه قبة ضخمة ، وأنشأ في وسطها قصرا ضخما له ديوان كبير وعليه قبة خضراء عالية ، ويلاصق هذا القصر مسجد جامع واسع ، وعدد من الدواوين ، ويحيط هذه الأبنية رحبة ، وبين الرحبة والأسوار تمتد دروب كثيرة مستقيمة تقع عليها طاقات وحوانيت ، ووزع علي حرسه قطائع ليبنوا عليها بيوتهم ، ثم مد إليها قناتين تاخذ إحداهما مائها من نهر دجلة الذي يقع شمال المدينة، وتأخذ الثانية من نهر كرخايا الواقع جنوبي المدينة ، وكانت كل قناة منهما تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب ويجري فيها الماء صيفا وشتاء دون إنقطاع .
وقد استغرق بناء بغداد أربع سنوات ١٤٥- ١٤٩هـ إلا أن المنصور انتقل إليها بعد سنتين من شروعه في البناء .
وقد ذكر بن الفقيه الهمداني ذلك فقال: ( وكان فراغ المنصور من بناء مدينة السلام ونزوله إياها ، ونقل الخزائن والدواوين وبيوت الأموال إليها سنة ست وأربعين ومائة ، وكان استتمامه لبناء السور والفراغ من الخندق وإحكام جميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين ومائة ) .
٢- الأرباض والأرباع .
أقطع المنصور أهل بيته ورجال الحاشية والجيش والأراضي التي تقع بمحاذاة مدينته المدورة ، فأقطع أولاده الأطراف الشرقية منها – وهي شقة ضيقة من الأرض محصورة بين بغداد ودجلة- فشيدوا فيها القصور ، كما بني المنصور فيها قصرا سماه الخلد ، وأفرد الأراضي الواقعة جنوب المدينة والمحصورة بينهما وبين نهر الصراة لعدد من رجال الأسرة العباسية وابناء الصحابة الذين قدموا عليه من الأنبار والبصرة والكوفة والاحواز .
أما الأطراف الغربية والشمالية من المدينة المدورة فقد أسكنها الجاليات التي جاءت من خراسان وبلاد ما وراء النهر ، وجعل في كل ربع سوقا يشتمل علي عدد من الحوانيت.
ثم أمر ابو جعفر المنصور بإخراج السوق إلي ناحية الكرخ ، وهناك عدة روايات حول السبب الذي جعل المنصور يأمر بإخراج السوق منها :- أن أحد بطارقة الروم قدم بغداد ، فامر المنصور الربيع بأن يطوف به المدينة ( حتي ينظر إليها ويتأملها ويري أسوارها وابوابها وما حولها من العمارة ويصعد السور حتي يمسحه عليه من أوله إلي آخره ويريه قباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك ، ففعل الربيع ما أمره فلما دخل المنصور قال له : كيف رأيت بنيتي ، قال: رأيت حسنا ومدينة حصينة ، إلا أن أعدائك معك فيها ، قال: ومن هم ؟ قال : السوقة، يوافي الجاسوس من بعض الأطراف يدخل لعله ما يشتري ، فيتجسس الاخبار ويعرف ما يريد وينصرف من غير أن يعلم به ) .
وقيل أيضا أن المنصور حين استتم البناء دعا إليه رسل الملوك الذين كانوا علي بابه ، فقال كيف ترون مدينتي هذه ، فقالوا ما رأينا أحسن تقديرا ولا أحكم بناء ولا أحصن أسوارا منها ، فقال هل ترون فيها عيبا ؟ فقال أحدهم : نعم ، سوقها في جوفها والجواسيس لا ينكر عليهم مخالطة السوقة ومبايعتهم ) .
٣- بناء الرصافة .
ولم تلبث بغداد ان ازدحمت بالناس الذين توافدوا عليها من النواحي ، ولما كانت سنة ١٥١هـ قدم المهدي إلي بغداد علي رأس جيشه من خراسان، فانزله المنصور علي الجانب الشرقي من نهر دجلة ( وأمره ببناء الرصافة وأن يعمل بها سورا وخندقا وبستانا، فابتدأ بعمل ذلك وجعل النهر مخترقا لها حتي يدخل المسجد الجامع ، فكان الناس يشربون منه يوم الجمعة، وشوارعها لم تكن في الأحكام والإستواء مثل شوارع الجانب الغربي .. وكان استتمام بناء المهدي الرصافة والجامع سنة تسع وخمسين ومائة ) .
اقرا ايضا: قيام الدولة العباسية